الديمقراطية العربية التي تجاهلتها قمّة الديمقراطية
في بداية الثمانينيات “اعتنقت” الديمقراطية بصفة نهائية، بعد طريق طويل قادني من مكاتب الجبهة الشعبية في بيروت في السبعينيات إلى حجّ سنة 1975 إلى مسقط رأس ماوتسي تونغ في ريف مدينة شانجشا ونحن شباب من أقصى اليسار نطوف ببيت من الطين حذو بركة صغيرة يسبح فيها البجع، وكأننا نطوف بالبيت الحرام.
حصل التحوّل وأنا أكتشف أن وراء كل الفكر الشيوعي والقومي لا شيء غير عبادة الأشخاص وحكم أحزاب تتحول تدريجيا إلى مافيات تصادر حق الملايين، وتتصرف في حياتهم كما لو كانوا قطعانا من الماشية.
كان أيضا لكتابات سولجنتسين وعبد الرحمن منيف دور هائل في اكتشافي لما يختفي من رعب وقبح وعهر وراء الشعارات البراقة للاستبداد.
طوال 4 عقود مرّت علي كلمح البصر كم من معارك فكرية، كم من كتب قرأت وكتبت، كم من ساعات نقاش، وأيضا كم من معارك سياسية مع الأصدقاء، مع الخصوم، مع الأعداء… قادتني للسجن، للطرد من العمل، للمنفى، ثم للقصر الرئاسي توّجت يوم 27 يناير/كانون الثاني 2014 وأنا أمهر بصفتي رئيس الجمهورية التونسية أول دستور ديمقراطي عرفته تونس.
يا لتفاؤلي المبالغ فيه بذلك اليوم المشهود، وأنا أعتقد بأن الديمقراطية انتصرت نهائيا وأن أمامها كل المستقبل لتبني دولة القانون -المؤسسات التي حلمت بها طيلة 4 عقود- أداة لبلورة شعب من المواطنين على أنقاض شعب الرعايا الذي خلقته الدكتاتورية.
ها قد عاد الحكم الفردي لتونس مهد الربيع العربي، فقط بعد 7 سنوات، وها أنا مجدّدا مطارد ومتهم بالخيانة العظمى، تماما كما كان الأمر أغلب حياتي.
على مدار هذه العقود الأربعة الأخيرة، علمتني المعارك الفكرية والسياسية التي لم تتوقف لحظة -خاصة تجربة المعارضة والحكم- الكثير عن السياسة والبشر والديمقراطية.
لو طلب مني بعض الشباب أن ألخّص أهم ما تعلمت عن هذه الديمقراطية، لاستسمحتهم أن أضع عصارة هذه التجربة في شكل 4 توصيات لكل من سيواصل معركة يتضح أنها أصعب وأطول وأخطر مما كنا نتوقع.
التوصية الأولى:
تعاملوا باستخفاف مع كل المتشدقين بعدم “نضج” الشعوب العربية أو عدم أهليتها للديمقراطية
كتب مؤخرا أحدهم في صحيفة “الغارديان” (The Guardian) البريطانية أن ثورات الربيع العربي كانت ” تقليدا سخيفا” للثورات الديمقراطية البرتقالية في شرق أوروبا في الثمانينيات. وهو موقف يواصل ما كان يقال طيلة نصف القرن الأخير -في بعض الأوساط الغربية وعند منظري الاستبداد العربي- إن شعوبنا “غير مؤهلة ثقافيا” -ومن يدري ربما حتى بيولوجيا- لتبني وتعيش في كنف نظم ديمقراطية.
جاء الربيع العربي ليظهر للعالم شعوبا ناضجة متحضرة، تفادت إراقة الدماء لم ترفع شعارات دينية أو طائفية أو عرقية، وإنما شعارات تطالب بالكرامة والحرية. وجاءت أولى الانتخابات الحقيقية في تونس ومصر وليبيا لتظهر طوابير طويلة للأوسع مشاركة شعبية، ثم جاءت أحداث الجزائر والسودان ولبنان لتظهر أننا نرى بالعين ولادة شعوب المواطنين التي لم تعد قابلة للإخضاع. وما أن عاد الحكم الفردي للحكم في تونس يوم 25 يوليو/تموز إلا والمظاهرات لا تتوقف ضده، وسترحل به عاجلا أو آجلا.
حدث ولا تسل عمن سميتها “الأجيال الإلكترونية العربية” (e-generations) التي استملكت كل الوسائل الحديثة لتنظم أولى الثورات الإلكترونية التي لن يعيدها للقمقم أي جني استبدادي.
وإن قيل لكم انظروا نتائج الانتخابات في تونس وأنواع البشر الذين يملؤون البرلمانات، ذكروا بأن الشعب الألماني بعث بأغلبية نازية سنة 1932 ودفع الثمن غاليا، والآن لا يتجاوز عدد الذين ينتخبون اليمين المتطرف أكثر من 10%. لا بدّ إذن من القبول بحق الشعوب في التجربة والتعلم، وإعطائها الوقت الكافي لأنه لا وجود لشعب يولد ديمقراطيا بالثقافة والفطرة ويحسن -من أول يوم- اختيار ممثليه.
التوصية الثانية:
انتبهوا لسهولة الاستيلاء على آليات الديمقراطية واستخدامها لتدمير الديمقراطية
أتت الثورة الديمقراطية السلمية في تونس بعد ثورة 17 ديسمبر/كانون الأول 2011 بالانتخابات الحرة والنزيهة لتكون مرحلة نقاش وتنافس بين برامج سياسية ترفع من سقف الوعي الجماعي، فإذا بها تتحول في أقل من عقد إلى ساحة صراع؛ السلاح فيها الكذب والإشاعة والتدجيل، والنصرُ لمن يملك أكبر قدر من الإعلام المضلِّل واستطلاعات الرأي الموَجَّهة وشبكات الفيسبوك، ومن وراء الستار دعمُ أجهزة مخابرات أجنبية.
أتت الثورة الديمقراطية السلمية بحرية التنظيم، فشهدت الساحةُ الوطنية ولادةَ شركات سياسية يقودها رجال أعمال فاسدون أو بقايا الاستبداد أو عملاء المصالح الأجنبية المناوئة للثورة.
أتت الثورة الديمقراطية السلمية بحُرّية الرأي متوهمة أنها ستكون سلاح المستضعفين والمقموعين للتشهير بجلّاديهم.
لكن الأثرياء الفاسدين استولوا على جلّ وسائل الاتصال التي أصبحت بين أيديهم أداةً لنشر التضليل الممنهج، بل وترذيل الديمقراطية والثورة وفرض التوجهات التي تخدم مصالحهم.
حصلت هذه الكارثة نتيجة خيار إستراتيجي خاطئ تتحمل قيادة حركة النهضة أكبر مسؤولية فيه، وهو تسبيق ما سمي بالمصالحة الوطنية على المحاسبة. هكذا لم تمض بضعة أشهر على الثورة إلا واستعاد النظام القديم كل شراسته ليفشل الثورة ويعود للحكم ويقود البلاد للوضع الذي هي عليه، أي عودة الحكم الفردي والقضاء على الدستور الذي جاءت به الثورة.
الدرس الذي يجب أن يتذكره الديمقراطيون العرب أينما تمكنوا مستقبلا هو أنهم ليسوا بحاجة لأي شكل من أشكال العنف الدموي للدفاع عن النظام الديمقراطي. لكنهم بأمس الحاجة لقانون يعزل كل رجالات وتنظيمات الاستبداد؛ فهؤلاء قوم يخافون ولا يستحون. أثبتت التجربة أيضا أن العدالة الانتقالية لا معنى لها مع طغمة غير مستعدة للاعتذار والمصالحة؛ ومن ثم يجب أن يكون الشعار المحاسبة فالمحاسبة ثم المحاسبة. خاصة، يجب المسارعة إلى وضع حزمة قوانين تؤطر كل الحريات بحيث لا تمنعها بأي شكل، ولكن تحميها من الرباعي القاتل لكل ديمقراطية: الممول المفسد والسياسي الفاسد والإعلامي المرتزق والناخب المضلّل.
إذا لم تكن الديمقراطية لبؤة بمخالب وأنياب، فإن قدرها أن تسقط ضحية ذئاب مفترسة ستستعمل كل الوسائل وأكثرها خسّة ونذالة لقتلها.
التوصية الثالثة:
لا تفصلوا بين الديمقراطية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية وإلا فإنكم تفرشون البساط الأحمر لعودة الشعبوية والاستبداد
أهم شيء بالنسبة للديمقراطيين العرب عدم التعامل مع الديمقراطية من منظور الأيديولوجيا الليبرالية التي تفصل بين الحرية والعدالة وإنما من منظور أيديولوجيا حقوق الإنسان التي تربط بينهما.
لنذكّر أن الديمقراطية في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ليست إلا الحقوق السياسية المتمثلة في المادة 19 (حرية الرأي والتعبير) والمادة 20 (حرية التنظيم) والمادة 21 (حرية الانتخاب).
لكن هذه الحقوق ليست منفصلة ولا متقدمة على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية أي الحقٌّ في الضمان الاجتماعي (المادة 22)، والحق في العمل والحماية من البطالة (المادة 23)، والحق في الراحة وأوقات الفراغ وخاصة في تحديد معقول لساعات العمل وإجازات دورية مأجورة (المادة 24)، والحق في مستوى معيشة يكفي لضمان الصحة والرفاهة له ولأسرته (المادة 25)، والحق في التعليمُ مجَّانًا، على الأقل في مرحلتيه الابتدائية والأساسية (المادة 26)، والحق في المشاركة الحرَّة في حياة المجتمع الثقافية وفي الاستمتاع بالفنون (المادة 27).
إن كانت انتظارات النخب العربية هي الوصول لما تتمتع به الشعوب الغربية من حريات فردية وجماعية، فإن انتظارات عامة الناس التمتع بما تتمتع به هذه الشعوب من مستوى اقتصادي واجتماعي.
أن تأتي لهم الديمقراطية بالحرية فشيء جميل ومستحب، لكن إذا بقيت هذه الديمقراطية عاجزة عن تلبية حاجياتهم من عمل وصحة وتعليم وبقية الخدمات فإنهم سيديرون لها الظهر متعلقين بحبل أي مشعوذ شعوبي أو أي ديماغوجي استبدادي.
إنه الدرس القاسي والمتكرر لكل من يتصورون أن الديمقراطية هدف، والحال أنها بالنسبة لشعوبنا وسيلة لمزيد من العدالة الاجتماعية والانتهاء من الفساد واستئثار نخب قمعية فاسدة بالثروة والسلطة والاعتبار.
بالنسبة لنا نحن العرب، يجب أن تكون الديمقراطية وسيلة لتحقيق هدف آخر من أغلى أهدافنا، سميناه في غابر الزمان “الوحدة العربية”. كم من محاولة أثبتت أنها مستحيلة التحقيق في ظل أنظمة استبدادية، فهناك نموذج صراع الحزب نفسه -ممثلا في حزب البعث المتحكم في سوريا والعراق طيلة عقود- وفشل أدنى تقارب، فكل دكتاتور يريد نفسه موحّد أمة مزق الاستبداد أوصالها.
لا أمل لهذه الأمة في أي شكل من التنسيق إلا بدول ديمقراطية تستطيع وحدها بناء اتحاد الشعوب العربية الحرة على غرار الاتحاد الأوروبي الذي لم ير النور إلا بعد انهيار النازية والفاشية والشيوعية.
التوصية الرابعة:
لا تعادوا الغرب ولا تثقوا به
في الثالث من يوليو/تموز 2013 تمّ الانقلاب على النظام الديمقراطي في مصر، وتصادف أن قام الرئيس الفرنسي آنذاك فرانسوا هولاند من الغد زيارة رسمية لتونس، وفي الندوة الصحفية المشتركة في قصر قرطاج، أَدنتُ بأشدّ العبارات هذا الانقلاب وبقي الضيف -الممثِّل لإحدى أعرق النظم الديمقراطية في العالم- الاشتراكي التقدمي هولاند بالغ الحذر، رافضا اتخاذ موقف صريح.
لم أستغرب موقفه لأنه كانت لي -بوصفي معارضا لسنوات طويلة- تجربة موجعة مع جل الأنظمة الديمقراطية الغربية. فمن جهةٍ، التشدقُ بمفاهيم الحرية وحقوق الإنسان، ومن جهة أخرى الدعم المتواصل للاستبداد لأنه كان -ولا يزال- خادما مصالحها وهذا كل ما يهمها.
أقل ما يقال عن كبرى الدول الغربية إنها واجهت الثورات الديمقراطية العربية بكثير من التحفظ، وإنها لم تفعل الكثير لمنع زبائنها -أساسا دولة الإمارات- من تخريبها. وأيضا عندما قلنا في تونس لا نريد قروضا وإنما تحويل الدين إلى مشاريع تفوز بها شركاتكم فتربحون أنتم ونحن، كانت الردود أكثر من باهتة. هكذا كان الدعم السياسي والاقتصادي جدّ معبّر عن موقف لم يتسم لا بعداء صريح ولا بدعم حقيقي.
هل ستتغيّر السياسة الأميركية بعد مؤتمر قمة الديمقراطية التي غابت عنها الديمقراطية العربية، إلا بتمثيل العراق أي الديمقراطية التي فرضتها القوات الأميركية الغازية سنة 2003 والتي لا يمكن القول إنها حبّبت لا العراقيين ولا العرب في الديمقراطية؟ نتمنى ذلك لكن دون وهم كبير.
إن كان سبب عدم تحمس القادة الفرنسيين للديمقراطية العربية ناجما عن تصلبهم الأيديولوجي وتفضيلهم دكتاتورية علمانية على ديمقراطية يمكن أن تأتي بالإسلاميين للحكم، فإن السبب عند صانعي القرار الأميركيين إدراكهم أن الأنظمة الدكتاتورية وحدها التي تستطيع -بجانب ما توفره من صفقات خاصة عسكرية- ضمان التطبيع مع إسرائيل.
إنه ما فهمته هذه الأنظمة وما تلعب عليه باستمرار؛ وهي تدرك أن الطريق لقلب واشنطن يمرّ عبر تل أبيب.
على العكس من هذا، يعرف الأميركيون جيدا أن أي ديمقراطية عربية تخضع ككل ديمقراطية لرأيها العام والرأي العام العربي -وإن كان مع السلام- يرفض قطعيا شروطه المهينة أي القبول بدولة أبارتايد (فصل عنصري) واحتلال في الوقت نفسه.
بالنسبة للديمقراطيين العرب، السلام مطلوب وضروري لكن بالشروط الذي تقبله الشعوب، لا الذي تفرضها أنظمة مكروهة.
هذه الشروط هي التي تعطي للشعب الفلسطيني حقوقه كاملة إما داخل دولة متواصلة مستقلة قابلة للحياة وعاصمتها القدس الشرقية أو دولة ديمقراطية كالتي بناها مانديلا على أنقاض دولة “الأبارتين” أي لا تفرق بين سكانها على أي قاعدة عرقية أو دينية يتعايش فيها كل المواطنين على قدم المساواة التامة.
بانتظار حسم التاريخ، لا خيار للديمقراطيين العرب غير دعم الشعب الفلسطيني أيا كانت التكلفة، ورفض تطبيع ليس سوى تدجيل على الواقع، وإرجاء للحلول الشافية القادرة وحدها على بناء سلام حقيقي أي دائم.
بغض النظر عن كون الأنظمة الاستبدادية مثل الغطاء الموضوع على فوهة بركان تغلي مراجله وستتابع الانفجارات التي ستهدد الغرب بكل تبعاتها، فإن أميركا ستواجه بمفارقة عجيبة.
لا ننسى أنها تعيش اليوم في صراع مع الصين وذلك في كل الميادين وأساسا ميدان النموذج السياسي الأنجح المقدم للعالم.
وهي بدعمها لأنظمة مثل النظام المصري والإماراتي والسعودي، تدعم في الواقع الدول التي اعتنقت النموذج الصيني لا الأميركي (أي الاستبداد + الليبرالية) في أعتى مظاهرها. كم عجيب أن تسهم السياسة الأميركية في نجاح هذا النموذج الذي قد يشكّل إغراء لا يقاوم في العقود المقبلة لكثير من الدول في العالم، وآنذاك قل على الديمقراطية الغربية السلام حتى في أقدم معاقلها.
لذلك أقول: لا تعوّلوا على الدول الغربية؛ اتركوها تجني ثمار السياسات القصيرة المدى، وإنما عوّلوا فقط على أنفسكم، وإن وجدتم تغييرا في سياساتها فليكن في إطار علاقة شركاء لا زبائن، أي بدون تنازل عن حقنا في ديمقراطية عربية تريد السلام وترفض الاستسلام، لا يهمّ أن يصل الإسلاميون أو العلمانيين للحكم، ما دمتم تمسكوا بقواعد اللعبة الديمقراطية.
المهم ألا ننسى أبدا أن هناك غربا يعد حليفنا الصادق والمخلص، أي غرب منظمات المجتمع المدني والحقوقية على وجه الخصوص. لقد كان لتضامن هذا الغرب فضل كبير في دعم الحركة الديمقراطية العربية وهو أيضا العنصر الضاغط المتواصل على الحكومات الغربية، خاصة الدول الكبرى لتغيير سياسات مناهضة لمبادئها ولمصالحها أساسا المصالح الإستراتيجية.
في كل الحالات مصير الديمقراطية في العالم أجمع على المحكّ وليس فقط في بلداننا. لذلك يجب على كل القوى الديمقراطية في العالم أن تبني بينها الجسور، وأن تؤسس التحالفات، وأن تتجنّد في وجه الخطر الداخلي المتمثل في رباعي الممول المفسد والسياسي الفاسد والإعلامي المرتزق والناخب المخدوع، وفي وجه الخطر الخارجي المتمثل في ثنائي الاستبداد القديم والشعبوية الجديدة.
منصف المرزوقي
رئيس تونس السابق