من أكبر محدثي العالم الإسلامي في القرن الحادي عشر الهجري.. / سيدي أحمد ولد الأمير

تنويه: تم نشر هذه المقالة في العدد رقم 11 من مجلة الثقافة التي تصدر عن وزارة الثقافة والشباب والرياضة والعلاقات مع البرلمان والمنشورة في ديسمبر 2023 والخاصة باحتفالية مدائن التراث التي نظم في مدينة ولاتة التاريخية.

تتناول هذه الورقة بالتعريف محدثا وفقيها وعالما من ولاتة، عميت أخباره وشحت عناصر ترجمته وقل من سمع عنه، مع أنه كان له صيته الواسع في العالم الإسلامي وتكلمت عنه كتب الأسانيد والمشيخات، وهو الشريف الجليل والمحدث الضليع مولاي الشريف بن سيدي محمد بن مولاي عبد القادر بن سيد حمُّ بن الحاج الحسني الولاتي. وهذا الشريف الولاتي عاش في القرن الحادي عشر الهجري أي السابع عشر الميلادي، وكان أحدَ أهم المحدثين وأشهر رواة الحديث النبوي في ذلك القرن، وكان من أبرز حلقات الأسانيد، فهو أحد أعلام أهل السنة مما لهم سند عال متصل بالرسول صلى الله عيه وسلم. وقد انتشر سنده العالي في المشرق والمغرب عن طريق تلميذ تلميذه الشيخ صالح الفلاني، المتوفي بالمدينة المنورة سنة 1218هـ، والآخذ عن محمد بن سنة الفلاني عن مولاي الشريف بن سيدي محمد الولاتي. فمن هو هذا الولاتي الغائب عن كتب التراجم الموريتانية رغم حضوره في كتب الأسانيد المشرقية والمغربية، والمجهول في تاريخنا الثقافي رغم مركزيته في كتب الأسانيد والأثبات؟

المحدث الولاتي مولاي الشريف بن سيدي محمد في كتب المشيخات

لعل أبرز من ذكر المحدثَ الولاتيَّ مولاي الشريف بن سيدي محمد هو الفقيه المحدث صالح بن محمد بن نوح العمري الفلاني في كتابه: قطف الثمر في رفع أسانيد المنصنفات في الفنون والأثر، فقد ذكره 67 مرة، وفي كل مرة يذكره في سند مرفوع، إما سند حديث متصل، أو سلسلة سند كتاب من كتب السنة، وإما سند إجازة لمؤلف أو مؤلفات فقهية أو غيرها.
ولم يأخذ الشيخ صالح الفلاني مباشرة عن المحدث الولاتي مولاي الشريف بن سيدي محمد بل أخذ عنه بواسطة، وفي الغالب تكون تلك الواسطة شيخَه محمد بن سنة الفلاني العمري، وأحيانا تكون مولَايَ سُلَيْمَان الدرعي التنبكتي، وكلاهما أي محمد بن سنة الفلاني ومولاي سليمان التنبكتي تلميذٌ للمحدث الولاتي مولاي الشريف بن سيدي محمد.
ومن بين تلك الكتب التي أخذها صالح الفلاني بسند متصل بمولاي الشريف بن سيدي محمد صحيح البخاري (قطف الثمر ص 41)، وجامع الترمذي (قطف الثمر ص 55)، وحَاشِيَة اليوسي على شرح الكبري وعَلى شرح مُخْتَصر السنوسي وزهر الاكم فِي الْأَمْثَال وَالْحكم وقصيدته الداليه وَشَرحهَا ومحاضراته كلهَا لليوسي، وقد أجاز العالم المغربي اليوسي المحدث الولاتي مولاي الشريف بن سيدي محمد مباشرة (قطف الثمر ص 230). وكذلك سند صالح الفلاني بخصوص سنن أبي داود من أَوله إِلَى كتاب الْحَج عَن الشَّيْخ الشريف مولَايَ سُلَيْمَان الدرعي ثمَّ التنبكتي عَن مولَايَ الشريف أبي عبد الله مُحَمَّد الولاتي (قطف الثمر ص 50). ولن نطيل في تتبع أسانيد المحدث صالح الفلاني التي تمر بمولاي الشريف بن سيدي محمد الولاتي بل نحيل القارئ على كتاب صالح الفلاني: قطف الثمر ليرَها بعينه.

ولا نكاد نطالع كتاب فهرس الفهارس والأثبات ومعجم المعاجم والمشيخات والمسلسلات لمؤلفه المحدث الحافظ المغربي عبد الحي الكتاني (المتوفى سنة 1382هـ/1962)، حتى نجد ذكر هذا العلم الولاتي والمحدث الأصيل متواترا مذكورا عندما يسوق الكتاني أسانيده العالية، ويتحدث مفتخرا برواياته لموطأ الإمام مالك أو غيره من كتب السنة، فنجد هذا الولاتي حاضرا حضورا قويا وبارزا بروزا لا يخفى.

عندما ترجم الكتاني للشيخ محمد بن سنة الفلاني في فهرس الفهارس (2/1026) قال: ولد محمد بن سنة الفلاني عام 1042هـ، وجال في بلاد الصحاري والبراري لطلب هذا الشأن، ودخل أرض السودان مراراً، وسوس الأقصى ودخل شنقيط وتوات وتِنْبُكْتُ وأروان وولاته وتشيت وفاس ومراكش وسجلماسة، ولازم محمد بن أحمد بن محمود بن أبى بكر بَغَيُغُ الونكري التنبكتي إلي أن مات سنة 1067هـ، وأجازه إجازة عامة. ثم بعد موته رحل إلي ولاته فلازم الشريف أبا عبد الله الولاتي اثنتين وثلاثين سنة وأجازه إجازة عامة. ولما حج مولاي الشريف استخلفه في التدريس والإمامة، وجميع من لقيه مولاي الشريف في رحلته من العلماء فأجازه أو دعا له يشركه معه في الإجازة والدعاء، ولازم مولاي الشريف إلى أن مات سنة 1102هـ، ثم لازم ولده مولاي الشريف محمد بن محمد بن عبد الله الولاتي إلى أن مات. وأجازه جماعة من أهل فاس ومصر والحرمين والشام واليمن ولم يرهم، وذلك بواسطة مولاي الشريف أبي عبد الله محمد (الولاتي).

وقد كانت أسانيد ابن سنة هذا عن شيخه الولاتي موضع قبول ومحل استحسان، فأخذها عنه أهل المشرق والمغرب وأخذها الشناقطة كأبي زيد عبد الرحمن بن محمد الشنقيطي نزيل فاس الجديد بفاس، وعلامة شنقيط الشيخ محمد الحافظ بن المختار بن حبيب العلوي الشنقيطي، فقد أخذاها عن الشيخ صالح الفلاني عن شيخه محمد بن سنة الفلاني عن مولاي الشريف الولاتي وافتخرا بها عنه، وتلقاها بالقبول تلاميذ الشيخ محمد الحافظ العلوي ونشروها، كمحمدِي “بدي” بن سيدينا العلوي وولده الفقيه أحمد بن بدي مؤلف “العضب اليماني في الرد عن شيخنا سيدي أحمد التجاني” وأبناه: محمدي ومحمد الأمين وغيرهم.
وفي سياق افتخار عبد الحي الكتاني بأسانيده العالية نجد المحدث مولاي الشريف الولاتي واسطة ذلك السند وحلقة أساسية من حلقاته. يقول الكتاني مفتخرا بامتلاكه سندا يعرف بعشاريات السيوطي أي سند يصل السيوطي برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يزيد على عشرة رواة: ومن هذا السند الذي ساقه المحدث عبد الحي الكتاني ما هو مروي بالإجازة العامة بستة عشر راويا، لأن بين الكتاني وبين السيوطي خمسة وهم: المعمر أحمد بن صالح السويدي، عن الحافظ مرتضى الزبيدي، عن ابن سنة الفلاني بالإجازة العامة لأهل عصره، عن مولاي الشريف الولاتي، عن العلقمي عن السيوطي. فنلاحظ أن الشيخ الولاتي يروي عن السيوطي بواسطة راو واحد. ويقول الكتاني: “ولا أعلى من هذا السند الآن”، لأن بيننا وبين وفاته أربعمائة وثلاثين سنة، وبيننا وبين النبي صلى الله عليه وسلم فيها ست عشرة واسطة. وأعلى من ذلك ما حصل لنا في ثلاثيات البخاري، فإن بيننا وبين النبي صلى الله عليه وسلم فيها أربع عشرة واسطة فقط، وهذا لا أعلى منه في الدنيا. فلولا هذا المحدث الولاتي لما حصل علماء الحديث ورواة السنة في القرن العشرين على سند عال بهذه الدرجة من قلة الرواة.
وقد حاول عبد الحي الكتاني رحمه الله أن يترجم لهذا الشريف الولاتي، لكن عناصر ترجمته كانت قليلة وتفاصيل حياته كانت شحيحة، فلم تكن بين يدي عبد الحي الكتاني مراجع عن موريتانيا ولا معلومات عن أعلامها، على الرغم من كثرة اطلاعه وسعة بحثه. فاعتمد الكتاني على تك العناصر القليلة التي ذكرها تلميذ الولاتي المحدث المعمر محمد بن سنة الفلاني وهي أنه لازم شيخه مولاي الشريف الولاتي إلى أن مات، ثم لازم ولده مولاي محمد بن مولاي الشريف إلى أن مات هو كذاك. وربما -والكلام للكتاني- يكون ولد المترجم هو الذي أرخ الفلاني ولادته بسنة 1046هـ.
ويضيف الكتاني معلومة في غاية الأهمية قائلا: “وقد ورد على فاس بعد الحج والزيارة العالم الفاضل محمد الأمين بن دحان الحوضي التيشيتي فحرر لي شهرة مولاي الشريف المذكور بولاته بالعلم والشرف، وقد دخل هو ولاته مراراً وعرفها وعرف أهلها، وأن من ذرية مولاي الشريف المشاهر أولاد حمزة ولد الواثق، والواثق إما ولد مولاي الشريف أو حفيده”.
وفيما عدا المحدث عبد الحي الكتاني فقد ورد ذكر مولاي الشريف بن سيدي محمد الولاتي عند الفقيه المحدث محمد بن جعفر بن إدريس الكتاني (المتوفى سنة 1354هـ) في كتابه رسالة المسلسلات هذا المحدث الولاتي مرارا. كما ذكره حافظ المغرب أحمد بن الصديق الغماري (توفي يوم الأحد فاتح جمادى الثانية سنة 1380هـ الموافق 20 نوفمبر 1960م) في رسالته العتب الإعلاني لمن وثق صالح الفلاني (مخطوط بحوزتي) متحدثا عن صالح الفلاني ناقلا وناقدا بعض ما أورده عبد الحي الكتاني في كتابه فهرس الفهارس.

ترجمة المحدث مولاي الشريف بن سيدي محمد الولاتي

من هذه الإشارات الواردة في كتب الأسانيد المغربية واعتمادا على بعض الحوليات الولاتية وعلى بعض نصوص المختار بن حامدٌ الديماني رحمه الله يمكن أن يكون الشريف المذكور هو: مولاي الشريف بن سيدي محمد بن مولاي عبد القادر بن سيد حمُّ بن الحاج الإدريسي نسبا الولاتي موطنا السجلماسي أصلا، وابنه المذكور في النص والذي حج معه، كما في نصوص الفلاني، وخلفه في التدريس بعد وفاته هو: مولاي محمد بن مولاي الشريف بن سيدي محمد.
ونظرا لغياب مراجع عن بلاد شنقيط في القرون الماضية، فإن من ذكروا هذين العلمين الولاتيين أي مولاي الشريف بن سيدي محمد وابنه مولاي محمد خلطا أحيانا بينهما في التسمية، أو سموا أحدهما باسم الأخر، أو اقتصروا على جزء من الاسم، وأحيانا تضاف لهما نسبة الإدريسي وذلك ليس بالغلط فهما من ذرية إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وأحيانا تضاف لهم نسبة المغربي.
وقد ذكر ابن حامدٌ رحمه الله أن مولاي الشريف بن سيدي محمد بن مولاي عبد القادر كان رئيس قصر ولاتة، وذلك بمباركة من قبيلة المحاجيب ذات المكانة العلمية والاجتماعية بهذه المدينة الموريتانية الشهيرة.
كما ذكر ابن حامدٌ نقلا عن نص تاريخ حوضي يسميه ابن حامدٌ تاريخ الإيديلبي أن وفاة مولاي الشريف بن مولاي سيدي محمد كانت سنة 1181هـ. وقد وصفه الإيديلبي بالغطريف تأكيدا لمكانته الاجتماعية.
ولعل الإيديلبي صاحب التاريخ المذكور هو: سيدي محمد بن محمد المصطفى بن عمر بن سيدي محمد بن سيدي أحمد الملقب “دحان” الإديلبي صاحب النص المشهور بحوليات النعمة.
ولمولاي الشريف من العقب أربعة أبناء وهم: مولاي عبد القادر الملقب (ابن عالَه) توفي سنة 1215هـ، ومولاي الخليفة توفي سنة 1219هـ، والسيوطي توفي سنة 1228هـ. ولم تشر النصوص الولاتية التي بين أيدينا إلى تاريخ وفاة ولده الرابع سيدي محمد أو مولاي محمد، وهو الذي حج معه كما هو مذكور في المراجع المغربية. وتذكر الحوليات الولاتية حفيده وسميه: مولاي الشريف بن سيدي محمد بن مولاي الشريف فيمن توفي سنة 1228هـ في نفس السنة التي توفي فيها عمه السيوطي بن مولاي الشريف.
أما آل حمزة بن الواثق كما في نص الكتاني فالصواب حمزة بن الوثيق وهو من أحفاد مولاي الشريف لا من أبنائه مباشرة فبين حمزة وبين مولاي الشريف الذي أخذ عنه الفلاني ثلاثة آباء فهو: حمزة بن الوثيق بن مولاي الشريف بن سيدي محمد بن مولاي الشريف بن سيدي محمد بن مولاي عبد القادر بن سيد حمُّ بن الحاج. وسيدي حمُّ هو الجد الجامع لشرفاء ولاتة والنعمة. ومن آل حمزة بن الوثيق تفرعت ذرية ذكر بعضها في النصوص التاريخية الحوضية.

خاتمة:
يعتبر مولاي الشريف بن سيدي محمد بن مولاي عبد القادر الحسني الولاتي أحد أبرز المحدثين في القرن الهجري الحادي عشر أي القرن السابع عشر الميلادي، لا في بلاد شنقيط فحسب بل وفي العالم الإسلامي، فقد كان له الفضل في نقل أسانيد السنة العالية إلى كثير من المحدثين عن طريق تلميذه المعمر محمد بن سنة الفلاني. وبهذا تكون مدينة ولاتة التاريخية الموريتانية ساهمت بجدارة في حفظ الحديث النبوي، وكان لها الفضل في توسيع أسانيده ونشرها شرقا وغربا في تاريخ كانت جل الأسانيد فيه مشرقية. فكانت مدينة ولاتة بذلك رائدة أسانيد الحديث النبوي في المغرب الإسلامي.

زر الذهاب إلى الأعلى