الصراع بين فقيه تواصل والدولة العميقة / محمدالحسن محمدالأمين
لا بد أن نستحضر أولا أن العلاقة بين الحكام والفقهاء في التاريخ الإسلامي لم تكن على نسق واحد فهي تدور بين التعاون والتنازع لاختلاف أساليب الحكم وتفاوت أهله في الدين والصلاح وتباين آراء الفقهاء في الموازنة بين المصالح والمفاسد، لذلك نجد أن الإمام السيوطي رحمه الله أفرد كتابا سمّاه : (ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين) حذّر فيه من مجالسة الشيطان (السلطان) مستحضرا أحوال السلف الصالح مع الأمراء….
كما نجد -أيضا- أن فقهاء آخرين أفردوا كتبا في نصيحة الملوك والسلاطين بل تعاونوا معهم وحضروا مجالسهم كالإمام الغزالي وأبي الوليد الباجي وأبي بكر بن العربي رحمهم الله تعالى وغيرهم، لكنهم جميعا حافظوا على استقلال المعرفة وعدم تسخير الخطاب الديني لهفوات السلاطين والقاعدة أن الحكم هنا للغالب والنادر لا يقاس عليه.
تنازع الخطاب الديني بعد الربيع العربي
لم تكن متغيرات السلطة بعد حقبة الاستعمار وقيام الدولة الحديثة باستعارة تجارِب غربية دون تنقيح أو تمحيص إلا جزءا لا يتجزأ من الاستعمار الثقافي وتهميش العلماء الذين طالما استأثروا تاريخيا بوظيفة التشريع، فجيء بأهل القانون ليحلوا محلهم دون مراعاة لخصائص الأمة الإسلامية وحضارتها وتاريخها، وأردفوا ذلك بتسويق رموز دينية كي يُخضِعوا الناس ويظلموهم ويُذلُّوهم… لكنّ الربيع العربي أذكى جذوة في قلوب الشعوب الإسلامية فكشف عورات وهفوات، وأفضى إلى تنازع الخطاب الديني.
• علماء السلاطين: سعت دول الثروة المضادة إلى إنشاء هيئات ومنظمات تُسخِّرُ الخطابَ الديني لرغبات الحكام، تُحِلُّ وتحرم بالتشهي ولا تعصي لأسيادها أمرا، فأنشأت إمارة أبو ظبي منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة (2014) برئاسة عبدالله بن بيه، ومجلس حكماء المسلمين (2015) سعيا منها لاستغلال الخطاب الديني من جهة ومقارعة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين من جهة أخرى، وجعلت الفتاوى والأحكام الشرعية أداة لدعم سياسة الطغاة في بلدان العالم الإسلامي وإضفاء الشرعية عليهم، ويدرك ذلك جليا كل من تتبع فتاويهم وآراءهم الفقهية “الدموية” كفتوى علي جمعة في حق المتظاهرين المنهاضين للانقلاب “طوبى لمن قتلهم وقتلوه” وفتوى سعد الدين الهلالي بإعدام أكثر من خمسمائة مسلم بتهمة قتل ضابط، وفتاوى عبدالله بن بيه والبوطي وشيخ الأزهر وغيرهم… فجميعها تدل على أنهم جعلوا الفقه أداة من أدوات الظلم والاستبداد والقهر والطغيان.
• علماء الأمة: ونشأ خطاب آخر يهدف إلى إحياء تراث الأمة العظيمة والاستفادة من كل جديد نافع، وقد اختار الله أهله ليبلغوا رسالته ويواجهوا طغاة العالم بكلمة الحق، فناصروا الشعوب الإسلامية التي خرجت تنشد حضارتها وتاريخها وكرامتها، ويتجسد هذا الخطاب في تسخير السياسة للدين وتغيير الواقع حتى يوافق الشرع، ومن أهم مؤسساته الاتحادُ العالمي لعلماء المسلمين.
إذاً نلاحظ أن ثمة فريقين فريقا يقوم باستغلال الخطاب الديني لصالح رغبات أمرائه ورؤسائه وسياساتهم الخبيثة وفريقا آخر يقوم باستغلال السياسة لصالح الدين ويراها جزءا لا يتجزأ من الشرع كالصلاة والزكاة والحج…
هل يصلح الفقهاء للرئاسة؟
يثير بعض أشباه العوام شبها كثيرة لا حصر لها، ينقض بعضها بعضا لكن شبهة عدم صلاحية أهل العلم والفضل للرئاسة لاقت رواجا كبيرا بعد قيام تواصل بترشيح فقيه.
إن أي تأسيس لإبطال هذه الشبهة سيعود إلى تاريخ الأمة بل إلى صدر الإسلام، فلا شك أن العلماء هم ورثة الأنبياء الذين استخلفهم الله في الأرض ليبلغوا رسالته، فكيف نأتمنهم في أمور الدين ونخوِّنهم في أمور الدنيا؟
من هذا المنطلق اختار الصحابة رضي الله عنهم أبى بكر خليفة، فقد استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء حياته في الصلاة فلما توفي بأبي هو وأمي أيقن أصحابه رضي الله عنهم أن استخلافه في غيرها من باب أولى.
ومن هذ المنطلق -أيضا- يجب على المسلمين في كل زمان ومكان أن يختاروا رؤساءهم وأمراءهم كي تتحقق مصالح دينهم ودنياهم.
هل التغيير في موريتانيا مستحيل؟
سمعنا – ونحن صغار – أن “الدولة ما تعاند” ولا ينبغي لأي أحد أن يعارض نظام العسكر أو يخرج عن طاعته، وقد قام فئام من المفسدين بتطوير هذه الفكرة ليثبطوا ويضعفوا عزائم الشباب، فأذاعوا في كل النوادي استحالة التغيير بسبب التزوير وبيع الضمائر والرشوة … الخ
ومن خلال تلك الأفكار تتضح أهم معالم المعركة إذ يدرك أولئك المفسدون أن الإصلاح يبدأ بالإيمان بضرورة التغيير، وأن ما يحدث في الواقع ليس إلا انعكاسا لتلك المعركة الوجودية في نفوس الناس، ويجب أن يبقى سواد الشعب غير مؤمن به بل يظن استحالته أحيانا.
وهي معركة لم تَخْفَ على علماء الأمة ومرشديها حيث يقول العلامة يوسف القرضاوي رحمه الله تعالى:
(إن إصلاح الجماعات والشعوب لا يجيء جزافاً ولا يتحقق عفواً. إن الأمم لا تنهض من كبوة، ولا تقوى من ضعف، ولا ترتقي من هبوط؛ إلا بعد تربية أصيلة حقة، وإن شئت فقل: بعد تغيير نفسي عميق الجذور؛ يحول الهمود فيها إلى حركة، والغفوة إلى صحوة، والركود إلى يقظة، والفتور إلى عزيمة، والعقم إلى إنتاج، والموت إلى حياة.)
فإذا حصل الإيمان بضرورة التغيير تحول الهمود إلى حركة والفتور إلى عزيمة والركود إلى يقظة كما ذكر شيخنا القرضاوي وصار حلم التغيير حقيقة.