هويتي : قفزة نحو ديمقراطية مسؤولة/ محمد افو

يُعد العمل السياسي من أكثر المجالات حساسية وتعقيدًا؛ فهو الفضاء الذي تتبلور فيه المسؤوليات وتُرسم فيه الاستراتيجيات، وتُخاض فيه التحليلات والدراسات في مختلف قضايا الشأن العام. وهو كذلك الحاضنة الأولى للتدريب على الرقابة، والتفكير الابتكاري، والمتابعة الدقيقة.

فالعمل السياسي ليس مجرد نشاط عابر، بل هو البيئة التكوينية لصنّاع الرأي وقادة الوعي ورواد التغيير.

وفي هذا السياق، يُشكّل الحزب السياسي الأداة المركزية في تأطير المواطنين، وتوعية الناس، وتكوين النخب، وحشد الطاقات حول مشروع وطني يهدف إلى النهوض.

ويمكننا، من خلال قراءة تجربتنا خلال العقود الثلاثة الماضية، أن نقوّم بوعي القوانين المنظمة لهذه الأحزاب، لنفهم مغزى الإصلاح القانوني الأخير الذي أُعلن عنه.

لقد عشنا سنوات من التعددية الشكلية، تكدّست فيها عشرات الأحزاب التي لا تملك الحد الأدنى من مقومات الوجود، فضلًا عن الفاعلية. لا مقرات، لا خطاب، لا رؤية، لا أنشطة، بل ولا أهلية فردية في كثير من الأحيان.

تحوّل الشأن العام إلى فضاء مفتوح للتربح والمضاربة السياسية، ووسيلة لبيع الترشيحات، بدل أن يكون مسؤولية وطنية. ولم تُختبر هذه الأحزاب في ميدان الجدية، ولا وُضعت أمام استحقاقات تُفرز أهل الكفاءة والشغف السياسي.

والنتيجة؟ برلمانات مشلولة، وبيئة فاسدة تُشترى فيها الوجاهة والنفوذ، ويُختزل فيها العمل السياسي في أهلية المال أو القوة، بدل أهلية الرأي والمسؤولية.

وسط هذا الواقع، نجح الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني في تمرير إصلاح استراتيجي طال انتظاره، وقد جاء بعد مخاض عسير، لكنه أفضى إلى نتائج بمستوى التحديات.

الإصلاح الحالي لا يقصي أحدًا، لكنه يُبعد المتطفلين وتجار المواقف عن واجهة الشأن العام، ويفسح المجال أمام الكفاءات الحقيقية. فالساحة السياسية ستكون مفتوحة لأصحاب المشروع والرؤية، بينما سيفرض القانون على الجميع اختبار الجدية والتجذر الشعبي.

الشروط التي وضعتها الحكومة، رغم ما أُثير حولها، لم تكن تعجيزية كما تبيّن خلال أول أسبوعين فقط من تفعيل الإصلاح؛ إذ نجح حزبان ناشئان في استيفاء الشروط عبر منصة “هويتي”، مقدمَين نموذجًا مشرفًا من حيث عدد المنتسبين وانتشارهم الجغرافي، وهو ما يعكس أن القانون الجديد لا يُقصي، بل ينتقي على أساس الجدية والحضور الحقيقي.

القانون الجديد لا يُضيق على الحريات، بل يُحرر السياسة من العبث. سيجعل من الأحزاب رافعات وطنية تنبع قوتها من قناعات شعبية راسخة، بدل أن تكون مجرد مراكز تمويل تُدار بالجشع وتُغذى بالارتهان.

إنه بداية مرحلة جديدة من التنافس السياسي المسؤول، تضمن الحرية وتحفظ الثوابت، وترفع سقف التوقعات من كل من يتصدر المشهد العام.

زر الذهاب إلى الأعلى