تبصرة حول الأحداث التربوية خلال المائة يوم الماضية / عثمان جدو
لم يكن افتتاح السنة الدراسية الحالية 2024/2025 كسابقيه في السنوات القليلة الماضية؛ على الأقل من ناحية الإجراءات الشكلية، وإن اتحدوا كثيرا من المقاصد والأهداف؛
ففي السنوات الأربع الماضية كانت أحداث الافتتاح تجري بإشراف ميداني مباشر من فخامة رئيس الجمهورية في حفل افتتاح مشهود يكرم فيه علنا مع كامل التوثيق المتفوقون في كل سنة منصرمة ولذلك ماله من دفع معنوي واعتبارات تفضيلية.
قد لا يكون الدعم المعنوي قد تراجع حقيقة وإن اختفت بعض مظاهره ضرورة أو تغييرا للنهج الإجرائي بعيدا عن الروتين الذي قد يُملُّ مع دوام الاجترار الذي يحيل إلى سرمدية التكرار.
لقد شهدت المائة يوم الأولى للفريق الحكومي الأول في المأمورية الثانية لفخامة رئيس الجمهورية والتي شملت شهر الافتتاح لهذه السنة الدراسية جملة من القرارات، كان لصداها التأثير البالغ على العلاقة التفاعلية بين وزارة التربية ونقابات التعليم، وطبعا ينعكس ذلك سلبا أو إيجابا على الساحة التربوية، ربما بعثا لرياح تشتهى، أو تحريكا لمياه يخشى عليها ركودا يفسدها، تمثلا لقول الإمام: إني رأيت وقوف الماء يفسده إن سال طاب وإن لم يجر لم يطب.
وربما إحداثا لمعيقات واتباعا لمسارات، مطاردة لحقوق ضائعة، أو فرضا لمطالبات وجيهة، كل ذلك حسب مسوغات السالكين.
لا شك أن المضي قدما في تطبيق حيثيات القانون التوجيهي كان هو السمة الغالبة في هذه الفترة قيد الحديث، فالاستمرار التدريجي في احتواء الابتدائية في المدارس النظامية، وتوحيد الزي المدرسي، وتدريس المواد العلمية باللغة العربية في الابتدائية؛ بوصفها اللغة الأم الجامعة والمصانة دستوريا، بالإضافة إلى تنظيم توزيع الأشخاص على عموم التراب الوطني، كل ذلك عُدَّ في صميم الإيجابيات الحاصلة رغم ما تولد عنه من تبعات يستدعى بعضها المواكبة بمعالجة جادة سريعة منصفة؛
فلقد تولد عن حصر الابتدائية في المدارس النظامية وجود اكتظاظ غير مسبوق مما أرغم بعض المناطق على اعتماد التناوب بين الدوام الصباحي والمسائي بالإضافة إلى زيادة أعداد التلاميذ في كثير من الفصول وهو لا شك حدث يتطلب تدخلا سريعا وحلا نهائيا كي لا نقتل جودة التعليم بالتعايش مع الاكتظاظ، فمن الضرورة الملحة؛ العمل بمنتهى التركيز على إيجاد البنية العمرانية القادرة على احتضان كل التلاميذ وفق المعايير التربوية التي تضمن جودة التعليم.
ثم إن فرض الزي المدرسي أنتج مظهرا تربويا مهما تنمحي معه الفوارق بصريا على الأقل وهذا شيء إيجابي لكنه مازال بحاجة إلى توفير التغطية الشاملة بتوفيره كليا للطبقات المتعففة وإلزام القادرين على اقتنائه فورا، وعدم التساهل مع التأخر الملاحظ في بعض المناطق.
ومما لا شك فيه أن تدريس المواد العلمية في الابتدائية باللغة العربية سيكون له ما بعده من القدرة الفورية على استيعاب المعلومات شريطة توفير كتب هذه المواد في الوقت المناسب؛ والذي يسجل عنه الآن تأخر كتاب الرياضيات للسنة الرابعة ابتدائية الذي تقرر تدريسه هذه السنة باللغة العربية؛ والأكيد أن التأخر حصل بسبب مقتضيات فنية ضرورية تم تجاوزها فيما بعد وصولا إلى مرحلة الطباعة.
ولا يقل أهمية عن هذه النقاط آنفة الذكر ما حصل بخصوص توزيع الأشخاص وإن كان قد تسبب بموجة سخط عارمة داخل الأوساط النقابية فهل لذلك ما يبرره حقيقة وحكما دون مزايدة؟.
أما بخصوص الحراك النقابي فيمكن تتبعه من خلال بعدين يمثل أحدهما الواقعية والآخر نقيضها أو على الأقل المبالغة في غير محلها تماما..
-المطالب الواقعية:
فيمكن اعتبار مطالب من قبيل زيادة الرواتب وتحسين العلاوات مطلبا مشروعا تفرضه الضرورة المتجددة بفعل ارتفاع الأسعار المتنامي مع بزوغ شمس كل يوم، وتشعب الأعباء الاجتماعية الطارئة؛
ثم تأتي بعد ذلك وجاهة طلب اكتتاب مقدمي الخدمات بشكل يؤول إلى الترسيم، فحاجة القطاع إليهم ماسة، واستعدادهم للعمل الجاد ظاهر تماما؛
ويَتبع ذلك أهمية؛ ضرورة توفير سكن للمدرسين الذي يعبر عنه كثير من مقدمي هذا الطلب بضرورة الحصول على القطع الأرضية، وحق لهم ذلك، ولا نقلل من قيمته في استدرار عطاء المدرسين، لكننا نرى أن هناك إجراء قد يكون بديلا حين العجز عن توفير القطع الأرضية، وقد يكون مكملا لها مع القدرة؛ ألا وهو بناء سكن اجتماعي للمدرسين، وهنا لا نقترحه بالشكل الذي يكون مجمعا في مكان واحد داخل المدينة الواحدة؛ بل نرى أنه من الجدوائية التي تعينها قابلية التنفيذ، أن يكون ضمن كل مدرسة ابتدائية على الأقل سكن للمدير فوقه مباشرة سكن للمدرسين على الأقل لاحتوائهم بشكل فردي؛ فغالبا يكون المدرس يعمل بعيدا عن أسرته، وتتولد لديه أعباء السكن والنقل التي تخصص لها علاوة كجزء من الراتب لكنها لاتصل حد الإجزاء.
ومن الملاحظ أن سكن مدير المدرسة أصبح مضمنا في الأشكال المدرسية الجديدة، لكن علينا التفكير في حل مشكلة السكن للطاقم ككل بتوفير سكن مدرسي للجميع وبه نكون وفرنا عليهم تكاليف النقل اليومي.
ومن المطالب المطروحة ذات الوجاهة العالية؛ قيدوم المطالب (نظام الأسلاك) الذي من شأن تفعيله إحداث تنظيم وتثمين لمهنة التدريس وجعلها جاذبة أكثر لكل الكفاءات التربوية والفكرية والعلمية.
-مطالب مبالغ فيها:
هناك مطلبان أساسيان عند النقابات؛ أرى أنهما مبالغ فيهما ولو قليلا، وطبعا لن يتفق ما سأذهب إليه هنا مع قناعة أو تصور كثيرين خاصة المتضررين؛ فكما لا يستسلم المنتفع سريعا عند مواجهة روافد انتفاعه فإن المتضرر لا يقتنع سريعا بعدالة مكمن الضرر الذي لحق به، وللأمرين علاقة كبيرة بهيجان العاطفة التي تلعب دورا كبيرا في تحديد متجه الأحداث ذات الصبغة الشخصية، ونادرا ما يشكل ذلك اتحادا مع الإنصاف.
المطلب الأول يتمثل في طلب إرجاع المدرسين المزدوجين إلى أماكن عملهم السابقة؛ وطبعا قد يكون الإجراء قاسٍ جدا لمن كان يخدم عقدين من الزمن مثلا في ولاية معينة، أو كان من الذين انهوا توا الوفاء بتسديد متأخرات تكاليف التبادل التي كلفته كلفة مالية كبيرة فوجد نفسه يعود أبعد من المكان الذي صرف في السابق أموالا طائلة للتحويل عنهّ!.. قد يحصل هذا؛ بل الأكيد أنه حصل؛ لكن وبعيدا عن العاطفة هل هذا مخالف للقانون المنظم لعلاقة الموظف مع جهة التشغيل؟ وهل بمجرد هذا التحويل يقع التعسف؟؛ خاصة إذا كانت جهة التشغيل أي الوزارة تدعي أنها وضعت معايير ثابتة بناء على الحاجة إلى إعادة توزيع المدرسين من أجل خلق توازن تام في انتشار الكادر البشري، وحددت لذلك محددات ثم طبقت الإجراء على جماعات وليس على أفراد، وبعد ذلك طلبت كل من ترجح عنده أنه ظلم معياريا أن يرفع تظلمه مشفوعا بالدلائل؛ وأظهرت استعدادا تاما للتراجع؛ التزاما بالحق متى ما ظهر!! أظن أن الحجة لا تغلبها إلى الحجة، والبرهان لا يقهره إلا البرهان، وبالدليل يستساغ التعليل.
المطلب الثاني هو رفض ما يسمى ب (5+2) وهنا تطرح الأسئلة التالية نفسها:
هل خرج هذا الإجراء عن روح القانون المنظم للعلاقة بين الوزارة والمدرسين؟
هل في هذا الإجراء تجاوز للحد الزمني المحدد في أصل الالتزام الوظيفي مقابل التشغيل؟
هل من المنصف أن يكون مدرس السنة الأولى ابتدائية يدرس ثلاثين ساعة دون ضجر وإذا درسها غيره حتى لقسمين مختلفين كان ذلك جائرا؟
أظن أنه في ظل الحاجة للتغطية التربوية يبقى الإجراء في ظل القانون؛ لكن المطلوب أن تخصص له علاوة مجزية وأقول مجزية وليست رمزية؛ أي بمعنى أن تعلن عنها الوزارة في أسرع وقت ممكن وتكون في حد ذاتها مغرية، تَسدُ الحاجة إلى الفراغ الذي يُبحث عنه لمطاردة ساعات إضافية في فضاءات موازية، وحبذا لو كانت هذه العلاوة توازي أو تنافس؛ بل تتجاوز علاوة الطبشور.
وفي الأخير يبقى الهم التربوي شُغل الجميع الذي لا غنى فيه عن التلاقي الإيجابي بين الوزارة والنقابات، وبذل كل الجهود وتقديم المحفزات والرضى بالتنازلات سبيلا إلى الوقوف على الجوامع الإيجابية والاتفاق عليها.