المجلس العام لموريتانيا: انطلاقة الحياة السياسية الحديثة / محمد سالم ولد لكبار
تُعَدُّ مرحلة تأسيس “المجلس العام لموريتانيا” في عام 1946 محطة بارزة في تاريخ البلاد السياسي والاجتماعي، حيث كان هذا المجلس أول هيئة تمثيلية منتخبة في موريتانيا وأحدث تحولًا كبيرًا نحو الاستقلال والسيادة الوطنية. جاء إنشاؤه في سياق التحولات السياسية التي شهدتها إفريقيا بعد الحرب العالمية الثانية، حين بدأت المستعمرات الفرنسية تطالب بمزيد من الحقوق السياسية والتمثيل الذاتي. بموجب دستور الجمهورية الفرنسية الرابعة لعام 1946، الذي أعاد تنظيم السياسة الاستعمارية، حصلت المستعمرات، بما في ذلك موريتانيا، على فرصة لتأسيس مجالس عامة ذات صلاحيات محدودة، مما مهد الطريق للمشاركة السياسية المحلية.
رغم أن المجلس العام لموريتانيا تأسس تحت هيمنة الاستعمار الفرنسي وصلاحيات استشارية محدودة، فإنه أسس لمرحلة جديدة في الساحة السياسية، تشكل المجلس من 20 عضوًا، حيث قُسِّم الناخبون إلى فئتين رئيسيتين: النخبة الفرنسية ذات الامتيازات السياسية، والسكان المحليين الموريتانيين، الذين سُمح لهم بالمشاركة ضمن شروط محددة، كان النظام الانتخابي غير المتكافئ يعكس الطابع الاستعماري، حيث تمتع الفرنسيون بتمثيل أوسع وأقوى، بينما كان تمثيل الموريتانيين محدودًا ومعتمدًا على شروطٍ قاسية، مما أظهر تباينًا واضحًا في الحقوق والتمثيل بين الفئتين.
أولاً: تأسيس المجلس العام وأولى خطوات التمثيل السياسي
مع نهاية الحرب العالمية الثانية، شهدت إفريقيا تحولات سياسية كبيرة، في هذا السياق، تم تأسيس المجلس العام لموريتانيا في إطار إعادة هيكلة السياسة الاستعمارية الفرنسية وفقاً لدستور الجمهورية الرابعة لعام 1946، الذي منح بعض المستعمرات، بما فيها موريتانيا، فرصة للتمثيل السياسي المحدود، أظهرت الانتخابات التي جرت لتشكيل المجلس العام التفاوت بين السكان المحليين والمستعمرين الأوروبيين، حيث تم تقسيم الناخبين إلى فئتين: المواطنين المحليين والمواطنين الفرنسيين والمقيمين الأوروبيين. رغم هذا التفاوت، شكل المجلس خطوة أولى نحو بناء الهوية السياسية للموريتانيين.
تُوِّجَ المجلس العام في أكتوبر 1946 بتشكيل هيئة من 20 عضواً، تم انتخابهم عبر نظام مختلط: بعضهم عن طريق الاقتراع العام، والبعض الآخر عبر نظام الاقتراع المقيد المخصص للموظفين والشخصيات الحائزة على أوسمة فرنسية والمواطنين الذين يدفعون الضرائب. تكوَّن المجلس من جمعيتين: الأولى، تضم 6 أعضاء، تم انتخابهم من قبل المواطنين الفرنسيين فقط، والثانية، تضم 14 عضواً، تم انتخابهم من قبل المواطنين الموريتانيين الأصليين فقط، كان المجلس العام ذا طبيعة استشارية، حيث اقتصر دوره على تقديم المشورة للحاكم الفرنسي لموريتانيا في القضايا المحلية غير السياسية، واختيار خمسة من أعضائه لتمثيل موريتانيا في المجلس الأعلى لإفريقيا الغربية الفرنسية، الذي كان مقره في مدينة داكار.
عقد المجلس أولى جلساته في 28 أكتوبر 1946 في مدينة سان لويس، بحضور الحاكم الفرنسي جورج بوارييه، الذي شدد على ضرورة استغلال المجلس لتحسين الأوضاع التنموية والخدمية في موريتانيا، رغم أن المجلس بقي محدود الصلاحيات تحت إشراف الإدارة الاستعمارية.
ثانياً: تشكيلة المجلس العام
نصت التشريعات القانونية المتعلقة بتأسيس المجالس العامة في أقاليم غرب إفريقيا الفرنسية على إنشاء مجالس ذات صلاحيات محددة في كل إقليم. في موريتانيا، كان مقر المجلس العام في “سانت لويس” ويتكون من هيكل ثنائي يضم قسمين رئيسيين.
القسم الأول: يتألف من 6 أعضاء يتم انتخابهم من قبل الهيئة الانتخابية الأولى، التي تضم المواطنين ذوي الوضع الفرنسي الكامل فيما يتعلق بالحقوق السياسية، كان هذا القسم يعبر عن النخبة ذات الامتيازات الفرنسية.
القسم الثاني: يتكون من 11 عضوًا يتم انتخابهم من قبل الهيئة الانتخابية الثانية، التي تشمل المواطنين الموريتانيين الذين احتفظوا بوضعهم الشخصي التقليدي، بالإضافة إلى الإداريين الفرنسيين، كان هذا القسم يمثل شرائح المجتمع المحلي وعناصر الإدارة الفرنسية، ويُظهر هذا التشكيل انقسامًا داخل المجلس بين النخبة ذات الامتيازات الفرنسية والأعضاء المحليين، مما يعكس الهيكل الاجتماعي والسياسي الذي سعت الإدارة الاستعمارية لترسيخه في المنطقة.
1 -توزيع المقاعد
توزيع المقاعد في المجلس العام خضع لتقسيم دقيق يهدف إلى ضمان تمثيل مختلف المناطق الإدارية وفق الترتيب الذي وضعته السلطات الفرنسية. تم تقسيم المقاعد بين الهيئة الانتخابية الأولى والثانية كالتالي:
– الهيئة الانتخابية الأولى: تختار 6 أعضاء يمثلون القسم الأول من المجلس، هذه الهيئة اقتصرت على المواطنين الفرنسيين ذوي الحقوق السياسية الكاملة، وذلك من خلال الدوائر الانتخابية التالية:
(4) الدائرة الأولى : تشمل دوائر آدرار ، إنشيري، خليج ليفريه
(2). الدائرة الثانية : تشمل دوائر لبراكنه، كوركل، غيدي ماغه، لعصابه، تكانت، الحوض
– الهيئة الانتخابية الثانية: تختار 14 عضوًا يمثلون القسم الثاني من المجلس، وتشمل هذه الهيئة المواطنين الموريتانيين المحتفظين بوضعهم الشخصي التقليدي والإداريين الفرنسيين، وذلك من خلال الدوائر الانتخابية التالية:
(1) دائرة خليج ليفريه *
(1) دائرة إنشيري *
(1) دائرة آدرار *
(1) دائرة تكانت *
(2) * دائرة لبراكنه
(2) * دائرة الحوض
(2) * دائرة الترارزة
(1) دائرة كوركل *
(1) *دائرة غيدي ماغه
(2) دائرة لعصابه *
يُظهر هذا التوزيع التفاوت في التمثيل السياسي، حيث كانت الهيئة الانتخابية الأولى ذات الطابع الفرنسي تملك نسبة أقل من المقاعد مقارنةً بالهيئة الثانية، لكن مع ذلك كانت لها تأثيرٌ كبير في اتخاذ القرارات.
2 -اللجان المتخصصة
داخل المجلس العام، شُكّلت لجان متخصصة تولت مناقشة مختلف القضايا ذات الصلة بالإدارة المحلية والتنمية الاجتماعية والاقتصادية. ومن أبرز هذه اللجان:
لجنة المالية: كانت مسؤولة عن مناقشة القضايا المالية، بما في ذلك إعداد الميزانية وتوزيع الموارد المالية. أدّت هذه اللجنة دورًا محوريًا في تحديد أولويات الإنفاق المحلي، مع التركيز على التنمية التي تتماشى مع المصالح الفرنسية.
لجنة الشؤون المختلطة: ناقشت القضايا الاجتماعية والاقتصادية، بما في ذلك التخطيط والتنظيم العمراني، والزراعة، والصحة العامة. شجعت هذه اللجنة على تحسين الخدمات المحلية بشكل يتناسب مع متطلبات الإدارة الاستعمارية.
ثالثاً: صلاحيات المجلس
تُعَد صلاحيات المجلس العام لموريتانيا، الذي تأسس في 28 أكتوبر 1946، محدودة ولكنها كانت ذات أهمية تاريخية في سياق تطور الحياة السياسية في البلاد تحت الاستعمار الفرنسي. وكان للمجلس نظام مزدوج الصلاحيات يعكس التوزيع غير المتوازن بين الأعضاء المحليين والأوروبيين، حيث كانت السلطة الفعلية بيد الإدارة الفرنسية. ومع ذلك، كانت هناك بعض الصلاحيات التي مُنحت للمجلس، والتي يمكن تلخيصها بالنقاط التالية:
1-الصلاحيات الاستشارية: المجلس العام هيئة استشارية تُقدِّم المشورة للحاكم الفرنسي لموريتانيا بشأن القضايا المحلية غير السياسية. وعلى الرغم من أن المجلس لم يكن يتمتع بصلاحيات تنفيذية، فقد كانت توصياته تُؤخذ بعين الاعتبار من قبل الإدارة الاستعمارية.
2-التصويت على القضايا المحلية: شمل المجلس العام لجنة مالية ولجنة الشؤون المختلطة، حيث ناقشت هذه اللجان القضايا الاقتصادية والاجتماعية المهمة، مثل إدارة ممتلكات الإقليم وتنظيم المساعدات والمساهمات، وبهذا كان المجلس يشارك في اتخاذ القرارات المتعلقة بالشؤون المحلية ضمن إطار تنظيمي.
3-التمثيل في المجلس الأعلى لإفريقيا الغربية الفرنسية: كان من بين صلاحيات المجلس العام اختيار خمسة من أعضائه لتمثيل موريتانيا في المجلس الأعلى لإفريقيا الغربية الفرنسية، الذي كان مقره في داكار، وهذا كان يسمح لموريتانيا بالمشاركة في القرارات الإقليمية التي تؤثر على مستعمرات غرب إفريقيا.
4-إصدار المداولات والتوصيات: كان المجلس العام يمتلك الحق في إصدار مداولات وتقديم توصيات بشأن قضايا إقليمية معينة، مثل نزع الملكية والتصرفات المتعلقة بممتلكات الإقليم، وتعديل وجهة الممتلكات، وتنظيم المشاريع العامة، وصرف المساعدات.
5-مراجعة مداولات المجالس البلدية: كان للمجلس العام الصلاحية في مراجعة وموافقة على مداولات المجالس البلدية المتعلقة بإنشاء، إلغاء، أو تعديل الأسواق والمعارض.
6-التمثيل في القرارات المالية: كان المجلس يتداول في الميزانية الإقليمية ويعطي رأيه في النفقات والإيرادات، مع مراعاة أحكام المرسوم الذي يحدد كيفية تحويل الميزانية ومراقبة النفقات.
7-التقارير والإشراف على الأعمال العامة: كان المجلس مسؤولًا عن تقديم تقارير حول الأعمال المتعلقة بتطوير الطرق والمسارات، وتنظيم الخدمات الاجتماعية والصحية، وتشجيع الإنتاج، ومنح الامتيازات للجمعيات والشركات.
على الرغم من القيود التي فرضها الاستعمار الفرنسي، فإن صلاحيات المجلس العام كانت بمثابة مقدمة لتطوير الهياكل السياسية والإدارية في موريتانيا، مما ساعد في بناء الأسس التي أدت إلى الاستقلال وتشكيل الدولة الموريتانية الحديثة.
رابعاً: الجمعية الإقليمية وانتخابات 1952
في يونيو 1952، تم تغيير اسم المجلس العام” ليصبح “الجمعية الإقليمية “، وجاء هذا التعديل في إطار استجابة فرنسا للضغوط المحلية والدولية بهدف توسيع قاعدة التمثيل السياسي في مستعمراتها، شكلت انتخابات 1952 محطة حاسمة في تطور المشهد السياسي في موريتانيا، إذ شهدت تنامي الطموحات السياسية المحلية وتزايد الدعوات المطالبة بالاستقلال، و تم تطوير المجلس العام في سنة 1952م من خلال زيادة عدد أعضاء الجمعية (الثانية) إلى (18) عضواً، كما أصبح يتم انتخاب أعضائه عن طريق نظام الاقتراع العام المباشر فقط.
في هذا السياق، بدأت الأحزاب السياسية في التشكل والمساهمة في التأثير على الحياة السياسية، تأسس الاتحاد العام لمنحدري الضفة في عام 1947، وركز على الدفاع عن حقوق المواطنين من الزنوج، بينما ظهر الاتحاد التقدمي الموريتاني في عام 1948 بدعم من بعض الشخصيات المؤثرة والمقربة من الإدارة الفرنسية، في عام 1950، تم تأسيس حزب الوفاق الموريتاني بقيادة حرمة ولد ببانا، وكان هدفه تحقيق الوحدة الوطنية ومعارضة الاستعمار الفرنسي، ثم تأسست رابطة الشباب الموريتاني في عام 1955، وضم مجموعة من الشباب الطامحين إلى التحرر الوطني، عام 1958 شهد تأسيس حزب النهضة الوطنية الموريتانية بقيادة بوياگي ولد عابدين، الذي ركز على تحقيق الاستقلال عن فرنسا، وفي نفس العام تم دمج الاتحاد التقدمي وحزب الوفاق لتشكيل حزب التجمع الموريتاني، في عام 1959 تأسس الاتحاد الوطني الموريتاني بدعم من الحزب الفيدرالي الإفريقي، وفي فبراير 1960 تم تأسيس اتحاد الاشتراكيين المسلمين الموريتانيين، الذي ضم نخبة سياسية من منطقة أدرار.
في 28 نوفمبر 1958، أعلنت الجمعية الإقليمية قيام الجمهورية الإسلامية الموريتانية، كجزء من التحولات السياسية في المستعمرات الفرنسية بعد موجة حركات التحرر الوطني. كما قررت الجمعية تحويل نفسها إلى جمعية تأسيسية، لتكون المحرك الرئيسي لصياغة الدستور وتحضير البلاد لمرحلة ما بعد الاستعمار. بعد المصادقة على دستور 22 مارس 1959، أصبحت الجمعية التأسيسية تُعرف باسم “الجمعية الوطنية”، والتي صارت البرلمان الذي يشرف على الحياة التشريعية في البلاد.
خامساً: إرث المجلس العام في بناء الدولة الوطنية
على الرغم من كون المجلس العام هيئة مقيدة الصلاحيات، إلا أنه أسهم في بناء الوعي السياسي لدى النخب الموريتانية وفتح المجال للمشاركة السياسية. شكلت التحولات التي شهدها المجلس، وصولًا إلى إعلان الجمهورية، محطات أساسية في مسار التحرر الوطني. يظل إرث المجلس العام مؤثرًا في الحياة السياسية المعاصرة، حيث وضعت المؤسسات التمثيلية التي أُسِّست تحت الاستعمار اللبنات الأولى للنظام الديمقراطي في موريتانيا، وبهذا، أصبح المجلس العام بمثابة جسر بين الهيمنة الاستعمارية والدولة الوطنية الحديثة.