مرْتَنة الحِرَف والْمِهن أمانٌ من الفقر وتحرير للفرد / باباه ولد التراد

الإسلام دين لا يعرف البطالة والخمول والتسول بل هو دين العمل الذي هو ديدن الصالحين وطريق المؤمنين الذين آثروا الكسب الحلال على ذل السؤال. وكثير من الآيات والأحاديث جاءت بالْحَثِّ على الكسب وتدعو إلى العمل والسعي في طلَب الرزق فقد جاء في القرآن الكريم: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)[1] وقال تعالى:(فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرض وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)[2]. فالعمل هو الحياة الكريمة لأنه يحرِّر الفرد من التبعية مع كوْن كل عمل صالح، سواء كان دينيا أو دنيويا،يأْجُرُالعبدَطالما أَخْلَصَ فيه وقصد به وجه الله تعالى وحقَّق من خلاله مصالح شخصية أو مصالح عامة تساهم في قضاء حوائج الناس.
وقد خفف الله سبحانه عن عباده قيام الليل من أجل انشغالهم بالعمل نهارا كما جاء في التنزيل:(فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ)[3]. ومع ذلك فقد وجدنا في هذه الآية دليلا آخر على أن الإسلام ينظر إلى العمل نظرة احترام وتكريم لأن الإسلام قد قرن العمل بالجهاد.
وفي الحديث الشريف: ” لإَنْ يَأْخُذْ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ” و”أَطْيَبُ الْكَسْبِ كَسْبُ الرَّجُلِ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ”. ولقد حث الإسلام علي محاربة الكسل “فَالْجُلُوسُ عَقِيمٌ لَايَلِدُ إِلَّا الْفَقْرَ”.وقد أخبر الله تعالى عن داود أنه كان يصنع الدروع فقال جلَّ من قائل:(وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِيُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ).[4] وهذه الآية دليل على جواز اتخاذ الصنائع والأسباب فالسبب سُنّة الله في خَلْقِه وهي شهادة للعُمّال وأهل الحِرف والصنائع بأن العمل شرف واتخاذ الحرفة كرامة ولقد قيل: “صَنْعَةٌ فِي الْيَدِ أَمَانٌ مِنَ الْفَقْرِ”. لذلك فالإسلام يحفِّز على العمل ويدفع الناس إليه كي يعيشوا في عزة وكرامة ومع ذلك ترك لهم حرية اختيار العمل البدني أو الذهني إذا كان مشروعا ويخدم المجتمع ويدفع بالأمة إلى طريق التقدم والرقي.
وقد عمل الأنبياء والرسل بِمِهَنٍ وحِرَف ووظائف مختلفة طلبا للرزق الحلال ولكي نقتدي بهم. قال تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ)[5]. يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: “أي يبتغون المعاش في الدنيا. وهذه الآية أصل في تناول الأسباب وطلب المعاش بالتجارة والصناعة وغير ذلك. ويقول سبحانه وتعالى على لسان ابنة الرجل الصالح شعيب حين طلبت من أبيها استِئجار نبيِّ الله موسى عليه السلام:(يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ). وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: “مَا بَعَثَ اللهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ. فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ”.
ولكَوْنِ داود عليه السلام كان يصنع الدروع فقد أخبر نبيُّنا صلّى الله عليه وسلم أنه كان يأكل من عمل يده. ففي الحديث الشريف”مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَاماً قَطُّ خَيْراً مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُد َكَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ” وقد دل هذا على أن العمل كان منهجَ الأنبياء والصالحين وطريقَ المؤمنين الأقوياء.
واستنادا إلى هذا كله فإنه يجب على الشباب في موريتانيا وخصوصا أولئك الذين ينظرون إلى الْمِهَن والْحِرَف المحلية نظرةَ ازدراء ويعتقدون أن بعض الْمِهَن دنيئة كالنجارة والحدادة، والرعي…أن يغيروا رأيهم بعد أن تأكدنا من ثبوت هذه الْمِهَن والأعمال لِخيرَةِ خلق الله وهم الأنبياء والرسل عليهم السلام.
وإذا كان للحرف والْمِهَن المحلِّية دورٌ أساسي في التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتوفير فرص العمل للجميع فإن الترفع عنها يفتح الباب واسعا أمام العَمالة الأجنبية التي سيكون هَمُّها الوحيد هو الاستحواذَ على خيرات البلاد.
ومع ذلك فإن الحكومة ستبقى دائما هي المسؤولةَ بشكل مباشر عن تغيير عقليات الشباب وهذا يتطلب منها الإسراع في اتخاذ سياسات حكيمة وجادة تعتمد من بين أمور أخرى: فرض العمل الحِرفي والمِهني على المترشحين للوظائف قبل ولوج أي منها، على غرار التجنيد الإجباري عند بعض الدول، مع اتباع منهج صارم يتعلق بالتوجيه والتعليم والْمُغْرِيات والثواب والعقاب والوقوف بحزم أمام المنافسة الأجنبية للعمالة المحلية.
وإذا كان بالصنعة يَكُفُّ الإنسان نفسه عن الناس ويدفع بها الضرر والبأس، لأن الفقر مذلة ومرض اجتماعي خطير يضر بالمصلحة العامة وأن الأمة كذلك تكون قوية بقوة أفرادها وضعيفة بضعف أبنائها من المتسولين أوالذين يترفعون عن العمل ويتغذون من تعب غيرهم، فإن على شعبنا الأبي أن يتوجه إلى العمل بكافة أشكاله، سواء كان فكريا أويدويا، ويسعى إلى مِرْتَنة الحِرف والْمِهن في بلادنا لأن ذلك سَيَدُرُّ على المواطنين أموالا طائلة ويساهم في تغذية السوق بموادَّ محلِّية تستقطب الزبائن وتستجيب لرغباتهم خاصة إذا كانت تحمل طابعا تراثيا وحضاريا.
وقد يفهم بعض الموريتانيين خطأ أن الإسلام يدعو إلى الفقر والزهد وعدم العمل وهو فَهْمٌ سقيم لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: “إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُحْتَرِفَ” وقوله “طَلَبُ الْحَلَالِ فَرِيضَةٌ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ”و”مَنْ أَمْسَى كَالًّا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ أَمْسَى مَغْفُوراً لَهُ”. فالمسلم مطالَب بأن يأكل من الحلال وإذا أنفق فعليه أن يُنْفِقَ من طيبات ما كسب.
غير أن البحث عن المال لايعني أبدا الجشع والتعدي والظلم وإنما يجب في ذلك كله امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه فقد حَثَّ الدين الإسلامي على القناعة والإجمال في الطلب وعدم التكالب على الدنيا فإن الجشع قد يدفع صاحبه إلى التعدي على الآخرين إرضاء لشهوة المال وجمعه.

زر الذهاب إلى الأعلى