أشجار مراكش.. من قطع فنية إلى حطب

يتجاوز مفهوم المدينة السكن والعمل نحو الأدب والفن والأشكال البصرية، التي من أجلها وجدت المدينة أصلاً، اتصالا بالتفاعل البصري ما بين العمران والإنسان، مثل الأرصفة، والمقاهي، والشرفات.

وهناك غاية جمالية بصرية فضلاً عن الوظيفية، تجعل المدينة فضاءً حضرياً في إنتاج المشهديات البصرية، مستفيدة من قابليتها السوسيولوجة والعمرانية.

متحف الشارع في تاركة 

بمبادرة من  النحّات المراكشي حفيظ تقوريت، وبدعم من “B’Arts”، وتنسيق دولي من الفنانة الفرنسية ناد تيري، تمّ افتتاح “أول متحف للنحت في الشارع” في مراكش عام 2009.

في غضون ثلاثة  أسابيع من العمل الدؤوب، تمكّن الفنانون من إعادة إحياء الأشجار الميتة على طول طريق “تاركة”، بفضل جهود أكثر من 20 نحاتاً من مختلف أنحاء العالم، في إطار مساهمة الفن في الحفاظ على البيئة .

هكذا، تحوّلت الأشجار الميتة إلى أعمال فنية جميلة، بعد أن أعاد الفنانون إليها الحياة رمزياً، عبر الفن والتعبيرات البصرية. لم تُمسّ الطبيعة إلا في عملَين نَحتِيين، إذ استعمل الفنان الإسمنت وفي الأخرى الحديد، ونال المشروع اهتمام الصحافة والفضائيات الدولية والعربية، بوصفه متحفاً بصرياً للأشجار.

كارثة فنية بصرية

يتحدّث الفنان المراكشي محمد نجاحي عن مساهمته في متحف الشارع لـ”الشرق” قائلاً:

“اشتغلنا أنا والفنان محمد فرقشي، على شجرة ضخمة ميتة، مستلهمين الرموز الوطنية المغربية بتقنيات حديثة، وقدّمنا عملاً نحتياً بيئياً، نال الإعجاب، وكنا سعداء بهذا الإنجاز كهدية لمدينة مراكش، ووفاءً للطبيعة الأم”.

واعتبر الفنان فرقشي، أن مساهمته جاءت “في إطار “دمقرطة” الفن، بمعنى أن الفن ينتجه الجميع، تجاوزاً لاشتراطات المتاحف، ونماذج العرض في الجاليريهات”.

هدر التراث الوطني

يدخل هذا المشروع في إطار فن البيئة، لكن أنصار البيئة وفنّها غير قادرين أحياناً على مواجهة “الخطط الطموحة”،  التي تتجاوز قيمة الأعمال الفنية وأبعادها.

يقول نجاحي: “هكذا عمدت بلدية مراكش قبل أيام، في إطار أعمال توسعة الشارع، إلى رفع الأعمال الفنية بشكل صادم للجميع، وتقطيع الأشجار ورميها كحطب، من دون استشارة الفنانين الذين بذلوا جهداً جباراً لأسابيع من العمل المتواصل”.

لقد أزالوا أعمالاً من صرح بصري مفتوح، عوض تثبيته في الدليل السياحي، فضلاً عن إدامة وإصلاح الإنارة، ما يجعله تراثاً مغربياً دولياً، يشهد على التلاقح الثقافي، وعلى مكانة المدينة الحمراء.

“الشرق” زارت موقع متحف الشارع، وعاينت الأعمال الفنية المرفوعة، التي وصفها البعض “بالجريمة الفنية”.

ووجّه الفنان محمد نجاحي رسالة إلى السيدة فاطمة المنصوري، عمدة مدينة مراكش باسم الفنانين جاء فيها: “تخريب تعسفي طال المنحوتات كلها التي أنجزها فنانون عالميون مغاربة وأجانب في شارع “تاركة جليز” .

أضاف: “يعدّ متحف الشارع مشروعاً فنياً ذا سابقة في تاريخ المدن المغربية، وتاريخ الفن المغربي عموماً”.

وقال: إن إزالة هذه الأعمال بثّ القلق والتنديد في صفوف الفنانين، إذ كيف تسمحون بهذا التخريب لمنجز فني وثقافي كان من المفروض أن يتمتع باهتمام  أكبر، ضمن مشروع الحاِضرة المتجددة، وخصوصاً أنكم تعتزمون توسيع الطرقات وتطوير بنية المدينة”.

وعبّر الفنانون وسكان المدينة الحمراء، عن استنكارهم “تخريب متحف الشارع”، وفي نيتهم القيام بوقفة احتجاجية “تعبيراً عن التعسف”، وكما يقول المثل المغربي”الحّكرة”.

مشهديات معاصرة

أعدّ المغاربة مدينة مراكش بخلاف المدن المغربية الأخرى، لاستيعاب فنون الشارع في الحدائق والساحات العامة، استهدافاً لعناية السائح الوافد الأجنبي، بغية تقديم مدينة عصرية تُشبه المدن القادم منها، ولكن بخصوصية وطنية، كما في الزليج والمعمار المغربي.

يقول أستاذ الفلسفة في جامعة محمد الخامس في الرباط، والباحث في الجماليات محمد الشيكر لـ”الشرق”:

“يشمل فن الشارع أو فنون الشارع سائر التعبيرات الفنية البصرية وغير البصرية، التي تتشكّل في الفضاءات العمومية، بمنأى عن القيّمين على الفن؛ بل ضداً على أوصيائه الرسميين، وفي مواجهة أجهزته الرقابية”.

وأكد أن نتالي هاينيش، وييف ميشو وسواهم، من الباحِثِين في ظواهر الإبداع وحقل الجماليات، رأوا في فن الشارع أحد تمظهرات “براديغم” أو نمط الفن المعاصر، التي أكدت حضورها بقوّة منذ السبعينيات من القرن الماضي”.

لكن الشيكر، يختلف مع التوصيف الآنف مقدّماً مِثالاً مغربياً من واقع التجربة الفنية، إذ  يعتبر “أن ما تعرفه ساحة جامع الفناء بمراكش منذ عقود طويلة، يفنّد بقوّة هذه المزاعم: كافة التعبيرات الموسيقية والمشهدية والفرجوية، التي تولد بهذه الساحة، تندرج رأساً ضمن تعبيرات فن الشارع، وهكذا فهي تشكّلت قبل الاتفاق على مصطلح فن الشارع نفسه” .

الفنانون المشاركون

حفيظ تقوريت، عبد الحق اليوسي، لطيفة حرابي، حسن مد هاوي، محمد فاركشي، محمد نجاحي، يوسف كفاحي (مراكش)، نيكول بالانك (مونبلييه)، إردال جيليك (ليموج)، جان بيير غوت (مارتينيك)، سعيد تويري (بن سليمان)، مصطفى بكشي، خالد أطلس، كريم العافية (الدار البيضاء)، جان-لوك كروليكوفسكي، إيزابيل ماجوني (فرنسا)، مصطفى بومزروق (الصويرة)، محمد أوردي (آسفي)، بونافيه كوناتي (بوركينا فاسو)، نارسيس ريناريسون (مارتينيك)، عبد الكريم وزاني (تطوان)، نور أحمد (الرباط)، نيكولاي فليسغ (برشلونة)، جيه بليني، خوستو أليمندرس (إسبانيا)، دانييلا رومانيولي (إيطاليا)، جيل كارون (كندا).

الشوارع متاحف عالمية

لا يقلّ “متحف الشارع” في تاركة الماركشية عن متاحف عالمية مشابهة له؛ إنها  ثروة وطنية وقومية، لا تجذب السياح فحسب، بل تشير إلى هوية البلد وتحولاته السياسية.

من هذه المتاحف المفتوحة، نذكر المتحف الشرقي في برلين- ألمانيا، بطول يتجاوز الكيلومتر، وهو المتبقي من جدار برلين.

بدأ 118 فناناً من 21 بلداً مباشرة بعد سقوط جدار برلين في 9 نوفمبر 1989، في رسم لوحاتهم هناك. افتتح رسمياً كمعرض في الهواء الطلق في 28 سبتمبر 1990. وأصبح هكذا نصباً تذكارياً وطنياً، ومن معالم المدينة.

متحف ” السماء المفتوحة” في تشيلي، تم افتتاحه عام 1992، بمساهمة من الفنان فرانسيسكو منديز، ويضم 20 جدارية، تُزّين واجهات المنازل والشوارع بل وحتّى السلالم، من تنفيذ فنانين تشيليِين ومن أميركا اللاتينية.

هناك تجربة مماثلة أقدم من تجربة تشيلي، وهي “متحف” الجداريات في شوارع مدينة “لايدن” الهولندية، مكتوب عليها قصائد لشعراء عالميين منذ نهاية القرن التاسع عشر. فضلاً عن متاحف كثيرة، تعتني بفن الشارع في روسيا، التي تضم مبانٍ خشبية من الطراز الروسي القديم، كما هي المتاحف في البرازيل وأميركا وسواها.

المصدر: الشرق

زر الذهاب إلى الأعلى