صراع الفَكْرُون وكُوجِيلْ… ملامح المأمورية الثانية!/ إبراهيم الدويري
المشهد السياسي والاجتماعي والأخلاقي في موريتانيا هذه الأيام تختصره مظاهر الازدحام المقيت على باب السياسي العصامي المختار ولد اجَّاي، لتهنئته على نيل ثقة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني الذي خرج من مأموريته الأولى برقم قياسي في تحطيم آمال كل من ظن به خيرا في القدرة على انتشال الوطن وأهله من هاوية التردي الشامل.
والرئيس نفسه هو الأشد انزعاجا والأفصحٍ تعبيرا عن تلك الخيبات في حملته الانتخابية الأخيرة، وتلك شجاعة تحمد له، وعسى أن يَشفعَ ذلك الاعتراف في المأمورية الثانية بإنجازات تأسيسية كبرى تسجل له في كتاب التاريخ المنقضي بسرعة؛ فالرئيس غزواني كان قد حلَّق بآمال الشعب في خطاب إعلان ترشحه فاتح مارس 2019، وتعهد بأمور كثيرة بقيت حبرا على ورق “تعهداتي”.
ومما رفع به الرئيس صوته الفصيح في ذلك الخطاب تعهده بتسخير ما “منَّ الله به عليه من تربية” في قيادة المجتمع وإصلاح الوطن، وهذا ملمح تشخيصي مهم في حينه يشير إلى عمق إدراك الرئيس وانزعاجه من استفحال الأزمة الأخلاقية الشاملة التي يعاني منها مجتمع السياسة الموريتانية، وفي مقدمتها النفاق السياسي وإدمان التملق للمسؤولين، يستوي في ذلك الفعلِ القبيح والخلق الدنيء شيخُ العشيرة الهرم، وحفيده التقدمي الدارس في جامعات الغرب على حساب “الجمهورية”.
وفي مظاهر الاحتشاد والأصوات المزعجة والتدافع على باب ولد اجاي وقبله وزير الإسكان بمناسبة تعيينه مديرا للحملة ما يكفي من الاشمئزاز والتقزز، وهنا يمكن للمراقب أن يتساءل عن موقف الرئيس المربي ووزيره الأول الصاعد من هذه المظاهر والمسلكيات وما يشابهها من انحطاط مجتمعي؟، هل يشمئزان منها كما هو متوقع من أي شخص سوي؟ أم أن المظاهر السلطوية الزائفة ولحظات الابتهاج العابر أهم عندهما من الحفاظ على إنسانية الإنسان الموريتاني؟.
وكل منصف يقدر المسحة الأخلاقية التي أضفتها المأمورية الأولى على الخطاب السياسي الموريتاني الذي عاش عشر حِجَجٍ من التنابز الجارح والتشنج الحاد، وذلك دليل على قدرة السلطة على ترسيخ أي مسكليات تشاؤها، ويضخم مسؤوليتها عن كل خلل بنيوي يتمدد في المجتمع أو يتجدد.
كما يأمل كل مشفق على الوطن ومستقبل أهله أن تبدأ المأمورية الثانية بسياسة صارمة تجاه هذا التردي الأخلاقي؛ فالجمع بين التخلف التنموي والانحطاط الأخلاقي مؤذن باضمحلال الدولة والمجتمع، ومما يقوي الحذر من طبع المأمورية الثانية بطابع التردي الأخلاقي هو ردات الفعل الأولى على تعيين الوزير ولد اجاي؛ فقد كتب أحد خصومه السياسيين المحليين منتقدا تعيينه بقصة تتعلق بالسلحفاة (الفكرون)، ورد عليه أحد أنصار الوزير الأول بقصة عن البومة الفرعونية (كوجيل).
المؤشر الأخطر في ردات الفعل هذه بالنسبة لي كدارس للتراث السياسي الإسلامي أن لجوء السياسيين إلى التعبير عن مواقفهم على ألسنة الحيوانات يدل على التأزم السياسي المشوب باليأس والمشبع بالخرافية؛ فحكاية “الأسد والغواص” الرمزية التي كتبها مؤلف مجهول في القرن الخامس الهجري تعبير عن “خيبة أمل” تراكمت من مواريث الفشل لدى البويهيين والسلاجقة كما لاحظ محققها الدكتور رضوان السيد، والشيء نفسه يقال عن “كليلة ودمنة” لابن المقفع، و”النمر والثعلب” لسهل بن هارون، فكلها تعابير سياسية عن أزمات استفحلت حتى قضت على دول ذلك الزمن.
فلجوء سياسيينا إلى ظلم هذه الحيوانات وتكليمها بالفجور بعد ظلمهم للبلاد والعباد يدل على أزمات أخلاقية أخرى منها غياب الشجاعة الأدبية في التعبير بوضوح عن الآراء، ولا أحب دخول هذه المهاترات باستحضار ما ترمز له السلحفاة والبومة في أدبنا العربي المليء بالقصص والانطباعات عن هذين الحيوانين، ولا استدعاء قصصنا الشعبية عنهما، فحال موريتانيا وحجم القلق على مستقبلها يحتاجان جدية وشجاعة لا يناسبهما الاستظراف الثقيل ولا التشنج الحاد سعيا لتسجيل نقاط هامشية على مأساة وطن يترنح.
تحتاج المأمورية الثانية إلى رجال دولة يؤسسون أبجديتها، ويبنون عاصمتها بناء يليق بكرامة الإنسان؛ فالطرق الهشة الرديئة التي تمر عليها السيارات الفارهة المتجهة لتهنئة هذا المعيَّن أو ذاك، تلعن كل مسؤول حكومي موريتاني وتتبرأ من فساده وسوء تسييره ورداءة تقديره وانعدام ضميره، فمثل هؤلاء يعزون ولا يهنئون.
نأمل أن تكون ملامح المأمورية الثانية ملامح بناء وتأسيس لدولة حقيقية متصالحة مع ذاتها وأطياف شعبها، وأن تختفي فيها المهاترات السياسية وتصفية الحسابات الآخذة بالتصاعد بين من يسميهم أهل نواكشوط بـ”أجنحة النظام” المتصارعة والمتمددة في فراغات تفويض الرئيس لأعوانه الذين سخروا ذلك التفويض في المأمورية الأولى للصراعات الصغيرة والمكاسب الحقيرة، وهذا ما حذرنا من عواقبه الوخيمة في مقال التعقيب على نتائج الانتخابات البرلمانية والبلدية عام 2023م. والله غالب على أمره.