ملامح العالم الجديد (1)… طريق الحرير القطبي / يربان الحسين الخراشي
شكلت زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأخيرة للصين محطة تاريخية ليس فقط لأهمية تعميق الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين الصين وروسيا، بل ولعمق مدى تأثير نتائجها مستقبلا على خارطة التجارة العالمية البحرية، حيث تحدث البيان المشترك المتوج لها عن تطوير ممرات تجارية بحرية جديدة قد تخلق تغيرات اقتصادية و جيوسياسية غير مسبوقة، وتعيد علاقات شبه المنطقة إلى ما قبل عهد توسع روسيا القيصرية، والاستعمار الأوروبي، وعلى رأس تلك الممرات ممر القطب الشمالي أو طريق الحرير القطبي، الذي تحدث البيان المشترك عن تشكيل لجنة فرعية بين البلدين للتعاون بشأن استغلاله وتطويره ليصبح ممراً بحرياً دولياً هاماً، وذلك عن طريق تشجيع الشركات الصينية والروسية على تعزيز التعاون في زيادة حجم المرور عبره، وبناء البنية التحتية اللوجستية على طوله، بالإضافة إلى تعميق التعاون في مجال تكنولوجيا بناء السفن القطبية، وحماية النظام البيئي في المنطقة.
ومن منظور الشحن البحري العالمي، يعد هذا الممر الملاحي أقصر طريق يربط بين القارات الثلاث: آسيا وأوروبا والأمريكتين، وباستخدام خط عرض 30 درجة شمالًا كخط فاصل، يمكن للسفن التجارية المغادرة من أي ميناء شمال الخط توفير حوالي 40% من وقت الرحلة عبر المرور من الممر مقارنةً بقناة السويس أو قناة بنما، حيث ستتقلص مسافة النقل بين شرق آسيا وأوروبا إلى 22 يومًا، مما يقلل من مدة الرحلة بحوالي 13 يومًا بالمقارنة بمسارقناة السويس، وبحوالي 18 يومًا بالمقارنة بمسار قناة بنما، وبحوالي 24 يومًا بالمقارنة بمسار رأس الرجاء الصالح. هذا من جهة، ومن جهة أخرى تقع معظم الدول المتقدمة والصاعدة في العالم شمال خط العرض 30 درجة، ويصل إنتاجها إلى حوالي 80٪ من حجم الإنتاج الصناعي العالمي، كما تساهم بحوالي 70% من حجم التجارة العالمية، ولذلك وبمجرد أن يصبح طريق الحرير القطبي قادرا على التعامل مع معظم حجم التجارة البحرية العالمية سيكتسب صفة ممر ملاحي دولي، مما سيشكل دائرة اقتصادية قوية حول القطب الشمالي، خاصة في شمال شرق آسيا وشمال غرب أوروبا، وهذا ما سيغير من النسق الاقتصادي والتجاري العالمي المعروف منذ قرون.
وحليا هنالك عدة عوامل و حوافز قوية تدعم تسريع عالمية ممر القطب الشمالي على رأسها التغيرات المناخية، حيث تشيرأحدث الدراسات أنه حتى في ظل سيناريو انبعاثات منخضة قد يصبح القطب الشمالي خاليا من الجليد في أفق 2030.
أما العامل الثاني فهو التفوق الروسي الكاسح في قدرات التحرك في القطب الشمالي عن طريق كاسحات الجليد النووية، حيث تشير البيانات إلى أن روسيا تمتلك حاليًا أكثر من 40 كاسحة جليد من بينها عدة كاسحات جليد نووية، ومن المنتظر أن يتضاعف عددها في أفق 2035، هذا بالإضافة إلى تطوير روسيا لمحطات الطاقة النووية العائمة، حيث بدأت أول محطة عائمة للطاقة النووية في العالم العمل سنة 2019 بميناء بيفيك أقصى الشرق الروسي بالقطب الشمالي، وتخطط روسيا لنشر خمس محطات طاقة نووية عائمة بحلول عام 2025، حيث جاري بناء الأربعة المتبقية إثنتان في حوض بناء السفن للصناعات الثقيلة بنانتونغ في الصين، وإثنتان في حوض بناء السفن بسانت بطرسبرغ في روسيا، ويمكن أن توفر كاسحات الجليد النووية، ومحطات الطاقة النووية العائمة ضمانًا قويًا للملاحة، وتوفير الطاقة بل وحتى الظروف الملائمة للسكن على طول طريق الحرير القطبي.
العامل الثالث يتعلق بتعميق الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين الصين وروسيا، وما يعني ذلك من آفاق كبيرة في مجال التجارة البينية، خاصة تجارة المواد الأولية والحبوب (الشحن من ميناء إلى ميناء) الكفيلة بإحياء الممر وجعل الاستثمارات في تطويره ذات جدوى اقتصادية، وحتى الآن تجاوز وزن الحمولات المنقولة على متن السفن التجارية التي مرت عبر هذا الممر البحري سنة 2022 حوالي 34 مليون طن، ومن المتوقع أن تصل إلى 80 مليون طن خلال العام الجاري على أن تقفز إلى أكثر من 250 مليون طن في أفق 2030، وهناك ما يدعم هذا التوقع بالنظر إلى التطور السريع لحجم التبادل التجاري الصيني الروسي الذي قفز من 111 ملياردولار سنة 2019 إلى أكثر من 240 مليار دولار سنة 2023 ، ومن المتوقع أن يكسرحاجز 300 ملياردولار قبل 2030.
أما العامل الرابع والأخير فهو الإمكانات الهائلة من النفط والغاز والفحم والمعادن المطمورة هناك، حيث تشير الدراسات إلى أن القطب الشمالي يحوي نحو 13% من الاحتياطيات النفطية غير المكتشفة حتى الآن على الصعيد العالمي، بالإضافة إلى 30% من الاحتياطيات العالمية للغاز الطبيعي، وكذلك احتياطات كبيرة من النيكل والماس والزنك و معادن التربة النادرة.
إن الأهمية الجيواستراتيجية لطريق الحرير القطبي لا تقتصرعلى إمكانية الوصول إلى الثروات الطبيعية الهائلة للمنطقة القطبية أو كونه يسمح بتطوير ممر بحري جديد للملاحة يختصر رحلات السفن بين الشرق والغرب، إنما تتجاوز ذلك إلى الأهمية الإستراتيجية من منظورعسكري بحت، حيث باتت السفن الحربية الروسية والصينية تنفذ دوريات غرب المحيط الهادئ وبمجرعبور إحدى غواصات الصواريخ البالستية لمضيق بيرينغ، ودخولها إلى المحيط المتجمد الشمالي ستصبح جل المدن الأمريكية في مرمى النيران وعلى مدى 3000 ميل بحري فقط، هذا بالإضافة إلى أن طريق الحرير القطبي يعد طريقا آمنا وسريعا للطاقة، التي باتت روسيا تتصدر قائمة الدول المصدرة لها إلى الصين باستحواذها على 19% من إجمالي الواردات النفطية الصينية، و%20 من واردات الغاز خلال العام المنصرم، وهذا ما يقلل من خطر السيطرة الأمريكية على الممرات البحرية المؤدية إلى الصين، خاصة مضيق ملقا الذي تمر منه سنويا جل واردات الصين من الطاقة.