رسائل الشباب العربي والإفريقي / محمد الأمين الفاضل
إن القارئ الفطن للواقع العربي والإفريقي خلال العقد الأخير لابد له وأن يقرأ رسائل صريحة جدا، وفصيحة جدا، ومختصرة جدا أبرقها الشباب العربي والإفريقي إلى أنظمته الحاكمة، أبرقها عبر البريد المضمون، وبثلاث صيغ مختلفة، وعبر ثلاثة أجهزة إرسال مختلفة.
الصيغة الأولى : تحريك الشارع وإشعال الثورات لإسقاط الأنظمة
ويبقى المثال الأبرز لهذه الصيغة من الرسائل هي تلك الرسائل التي جاءت من تونس ومصر وليبيا خلال موجة الربيع العربي، والتي أصابت عدواها العديد من الدول العربية.
لقد استطاع الشباب في تلك الدول، ومن خلال ثورات فاجأت العالم وبهرته أن يسقط عددا من الأنظمة العربية الدكتاتورية، والتي حكمت بلدانها لعقود.
نجح الشباب هناك في إسقاط أنظمة دكتاتورية كانت ظاهريا في منتهى القوة، ولكنه فشل فشلا ذريعا في تقديم البديل، بسبب نقص الخبرة والتجربة، ونظرا لغياب مشاريع ومؤسسات سياسية قوية في تلك البلدان، هذا فضلا عن ما شهدته المنطقة من ثورات مضادة، ومن مؤامرات خارجية، فكانت المحصلة النهائية خراب تلك الدول، ووصول حكام ليسوا بأفضل من الحكام الذين ثارت عليهم الشعوب، هذا إن لم يكونوا أسوأ منهم.
الصيغة الثانية : تحريك الدبابات وإسقاط الأنظمة بالانقلابات
ويبقى المثال الأبرز لهذه الصيغة بعض الانقلابات التي قادها عسكريون شباب، ويمكن هنا أن نقدم مثالين من انقلابي مالي وبوركينافاسو.
هذه الصيغة، وهذان المثالان بالذات، ليس بالإمكان أن نحكم عليهما الآن، فهما لم يحققا نجاحا بعد الانقلابين حتى نحكم بنجاحهما، وهما في المقابل لم يقعا في فشل ذريع أخطر مما كان عليه الحال في عهد النظامين المنقلب عليهما، حتى نحكم بفشلهما.
بكلمة واحدة لا يمكننا أن نحكم الآن على العسكريين الشباب الذين وصلوا إلى الحكم في مالي وبوركينافاسو بالنجاح أو بالفشل، وذلك لأنه لا مؤشرات إيجابية أو سلبية حتى الآن تمكننا من المجازفة بإطلاق أحكام نهائية.
الصيغة الثالثة : إسقاط الأنظمة عن طريق صناديق الاقتراع
وتبقى هذه الصيغة هي الصيغة الأكثر ديمقراطية، والأكثر شرعية، والأكثر أمانا، ويبقى السنغال هو المثال الأبرز على هذه الصيغة، والتي قد تصيب عدواها بلدانا أخرى إن هي نجحت.
في يوم 14 مارس 2024 كان بشيرو جوماي فاي يقبع في السجن، وبعد ذلك بعشرة أيام فقط، وتحديدا في يوم 24 مارس 2024 (يوما واحدا قبل ذكرى ميلاده 44) أوصلته صناديق الاقتراع إلى الرئاسة في سابقة من نوعها، وذلك بعد أن حسم الفوز في الشوط الأول من الانتخابات. هذه هي أول مرة يحسم فيها مرشح للمعارضة الفوز في الشوط الأول في السنغال، ويزداد الأمر إثارة عندما يكون هذا المرشح شابا، ومجرد مرشح احتياطي، لم يكن هو المرشح الأصلي لحزبه.
لا يمكن الحكم الآن على الرئيس السنغالي الجديد، فهو لم يستلم الحكم، ولم يُختبر ولو لفترة قصيرة، ومع ذلك فيمكن القول إن هذا الرئيس الشاب سيواجه عدة تحديات، ولن يكون بالإمكان الحكم عليه من قبل معرفة تعامله مع تلك التحديات، والتي يمكن أن نذكر منها :
التحدي الأول : يتعلق بطبيعة إدارته مستقبلا للعلاقة مع عثمان سونغو الذي رشحه للرئاسة، فالقيادة لا تقبل برأسين، وعثمان سونغو كان هو قائد مشروع التغيير، وبشيرو أصبح اليوم هو القائد الفعلي لهذا التغيير بعد انتخابه رئيسا، وإدارة العلاقة بين قائدين ستكون صعبة جدا، ومهما كانت درجة الانسجام بينهما؛
التحدي الثاني: يتعلق بنقص في التجربة والخبرة، فالرئيس الجديد لا يمتلك من الخبرات والتجارب في إدارة شؤون البلاد إلا خبرة متواضعة في إدارة الضرائب؛
التحدي الثالث : يتعلق بحجم الآمال الكبيرة والوعود السخية التي عليه الوفاء بها للشباب السنغالي، والذي يرجع له الفضل في إيصاله إلى الرئاسة؛
التحدي الرابع : يتعلق بما يمكن أن تقوم به الدولة العميقة من مؤامرات، وبما يمكن أن تحيكه فرنسا من مكائد، وفرنسا لاشك أنها مصدومة بوصول شاب ملتح، متعدد الزوجات، ذي خلفيته إسلامية، ويعد في برنامجه الانتخابي بالخروج من عباءة المستعمر، وبمراجعة بعض الاتفاقيات، وبصك عملة جديدة. لن تقبل فرنسا أن تخسر حليفها الأهم في إفريقيا بسهولة.
نأمل أن يتجاوز الرئيس السنغالي المنتخب هذه التحديات، ومع ذلك لا يمكننا أن نخفي في هذا المقام ما يساورنا من قلق له يبرره حول نجاح هذه التجربة، والتي إن نجحت فستكون ملهمة للشباب الإفريقي في العديد من الدول الافريقية.
وبالعودة إلى رسائل الشباب العربي والإفريقي خلال العقد الأخير، فيمكن القول ـ وبكل اطمئنان ـ إن هذا الشباب لم يعد يقبل باستمرار النهج السائد من الحكم في البلدان العربية والأفريقية، ورفضه لهذا النهج يمكن أن يأخذ عدة صيغ، فهو يمكن أن يأتي على شكل ثورات كما حدث في بعض البلدان العربية، ويمكن أن يأتي من خلال انقلابات يقودها عسكريون شباب، كما حدث في بعض البلدان الإفريقية، ويمكن أن يأتي من خلال صناديق الاقتراع كما حدث مؤخرا في السنغال.
وبالمجمل، يُمكنُ القول إن الشباب في هذه المنطقة من العالم أصبح أكثر قدرة على إسقاط الأنظمة الحاكمة، إما بالثورات أو الانقلابات أو الانتخابات، ولكنه ـ في المقابل ـ لم يثبت حتى الآن أنه قادر على إدارة شؤون بلدانه بنجاح بعد إسقاط الأنظمة الحاكمة، بل على العكس من ذلك فالتجارب الشبابية المتاحة حتى الآن، هي أقرب للفشل منها إلى النجاح.
إننا أمام دول عربية وإفريقية شابة، يشكل الشباب أغلبية السكان فيها، ولذا فمن حق الشباب أن يحكم، وهنا تطرح الخبرة مشكلة، أو أن يحكم من لديه خبرة ويتبنى بشكل كامل مطالب وتطلعات الشباب، والخبرة تحتاج في كثير من الأحيان أن يتجاوز صاحبها مرحلة الشباب.
وبذلك فيكون النموذج الأفضل للحكم في هذه البلدان هو أن يتولى الحكم فيها من يمتلك الخبرة، أي من تجاوز مرحلة الشباب، ولكن مع شرط أساسي وضروري وهو أن يتبنى كل مطالب الشباب وتطلعاتهم المشروعة.
وماذا عن موريتانيا؟
هذا سؤال قد يطرحه الكثيرون، وهو سؤال يمكن أن نجيب عليه من خلال ثلاث نقاط:
1 ـ ليس من المتوقع أن تشهد موريتانيا مفاجأة انتخابية في الرئاسيات القادمة، وسيكون الفوز في هذه الانتخابات للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، وبنسبة مريحة جدا. لم يظهر أي مرشح معارض قادر على أن يحدث مفاجأة في الانتخابات القادمة، والمعارضة قد خسرت تلقائيا انتخابات 2024 في العام 2019، ففي العام 2019 قدمنا في “منصة رئاسيات 2019” تصورا متكاملا للتحضير الجيد لانتخابات 2024، ولكنه لم يجد من يتبناه، وهذا التصور صالح للاستخدام الآن، وعموما فإن أقصى ما يمكن أن تفعله المعارضة في انتخابات 2024، هو أن تحضر بشكل جيد لانتخابات 2029 من أجل كسبها؛
2 ـ ليس من المتوقع أن تشهد البلاد انقلابا عسكريا، ويكفي أن نذكر بأن الرئيس الحالي قادم من رحم المؤسسة العسكرية، وهو قادر على تحصين البلاد من أي انقلاب عسكري في المستقبل المنظور؛
3 ـ ليس من المتوقع أن نشهد بلادنا في المستقبل المنظور ثورة شعبية، فحتى الآن لم تتهيأ الأرضية لثورة شعبية، ومع ذلك فلابد من التذكير بأن الثورات الشعبية لا يخطط لها، ولا يمكن التنبؤ بمواعيد تفجرها، وهي لا تأتي إلا بغتة نتيجة لشرارة ما.
لا خوف على البلاد من ثورة شعبية في المستقبل المنظور، ومع ذلك فإن هناك بعض نقاط الخلل التي يجب الانتباه إليها:
النقطة الأولى : ضعف المعارضة، وضعف الأحزاب الموجودة حاليا، وكلما ضعفت المعارضة وأحزابها، فإن ذلك سيعني أنه لم تعد هناك أي جهة سياسية قادرة على ترشيد غضب الشارع وتأمين تفجيره، وعندما تغيب أي جهة قادرة على ترشيد غضب الشارع وتأمينه، يصبح ذلك الغضب خارج السيطرة، وقابل للتفجر بشكل عنيف في أي وقت، وحتى من دون مقدمات وأسباب محددة.
النقطة الثانية : تنامي تأثير مواقع التواصل الاجتماعي عاما بعد عام، وتراجع حضور المدافعين عن النظام في هذه المواقع، مع تزايد حضور معارضيه، وذلك في وقت يلاحظ فيه غياب تام لأي خطة واضحة لدى النظام لمواجهة هذا الاختلال البين في الإعلام الجديد، والذي أصبح هو الأكثر تأثيرا في توجيه الرأي العام والتأثير عليه؛
النقطة الثالثة : وجود بلادنا في منطقة غير آمنة، ومفتوحة على كل التوقعات والاحتمالات.
إن غياب وجود هيئات سياسية معارضة ذات مصداقية قادرة على توجيه وترشيد غضب الشارع، وذلك في ظل تزايد تأثير مواقع التواصل الاجتماعي، كل ذلك من شأنه أن يحول أحداثا يمكن أن تقع في كل حين إلى أحداث عنيفة تهدد استقرار البلد وأمنه، وقد كانت هناك بالفعل محاولات في ذلك الاتجاه، ولعل أبرز مثال عليها ما شهدته بلادنا من مظاهرات واحتجاجات عنيفة بعد حاثة قتل الصوفي ولد الشين، وحادثة وفاة عمر جوب، وأحداث أركيز.
كيف نحصن بلادنا ونحميها من الاحتجاجات العنيفة في الفترة القادمة؟
في اعتقادي الشخصي أن ذلك يمكن أن يتم بتبني فخامة رئيس الجمهورية لمطالب الشباب الموريتاني في مأموريته الثانية، ويمكن لهذا التبني أن يتخذ عدة أشكال لعل من أبرزها :
1 ـ إعلان حرب شرسة لا رجعة فيها ضد الفساد والمفسدين؛
2 ـ البحث عن الكفاءات بشكل عام، وفي صفوف الشباب بشكل خاص، وتعيينها، وذلك على أساس أنه لا يمكن إحداث إصلاح دون مصلحين؛
3 ـ تجديد الواجهة السياسية والإدارية للنظام وضخ دماء جديدة فيها، وإبعاد كل من تآكلت مصداقيته عن واجهة النظام؛
4 ـ تخفيض أسعار المحروقات كلما أمكن ذلك، ومراقبة ملف الأسعار بشكل صارم؛
5 ـ العمل على عصرنة الإدارة وتقريب خدماتها من المواطن بشكل حقيقي ودائم، وأول شرط في تقريب خدمات الإدارة من المواطن يتمثل في مخاطبته بلغته الرسمية التي يفهمها أو يفترض فيه أنه يفهمها.
6 ـ الاستمرار في الاهتمام بالفئات الهشة، ورغم ما تحقق من إنجازات كبيرة في هذا الملف خلال المأمورية الأولى، إلا أن الاستمرار فيه خلال المأمورية الثانية يبقى من أولوية الأولويات.
لم أتحدث في هذه النقاط عن التعليم والصحة والتشغيل وقضايا أخرى معروفة، وذلك ليس تقليلا من شأنها، وإنما توخيا للاختصار، وذلك بعد أن تجاوز المقال المساحة المخصصة له.
حفظ الله موريتانيا..