فصل الخطاب في الحكامة والشباب..!
الشباب مرتكز الأمة؛ عماد نهضتها وعنوان تنميتها.. بانى حاضرها وصانع مستقبلها، ولا شك أن هذه المعاني والدلالات فى تجلياتها الفكرية والثقافية والعلمية والإبداعية، تستدعى الإعداد الأمثل لهذه الشريحة المحورية من خلال تسليحها بالعلم والمعرفة، وتحصينها بالوعي والتربية وإشراكها في وضع التصورات والاستراتيجيات التنموية، والبرامج والرؤى والأجندات المستقبلية لتوجيه طاقاتها وقدراتها نحو البناء والتنمية، وصرفها عن الانجراف فى مهاوى الغلو والتطرف، وصدها عن الانحراف فى مزالق الصراع و الفتنة.
إن الشباب مدعو فى هذه المرحلة للمشاركة بقوة فى عملية التغيير المجتمعي، من خلال الانخراط الفعال فى العمل السياسي الجاد والإنجاز التنموي الواعد؛ تصورا وتخطيطا وتنفيذا، لأن البلد بحاجة إلى طموح الشباب المندفع نحو التغيير، ورغبته الجامحة فى جودة الحكامة وحسن التسيير؛ فى ظل قيادة عاقدة العزم على تأسيس أسلوب رصين ومنهج متين لبناء دولة وطنية مدنية على أسس ديمقراطية تنموية حضارية جامعة.
فمشاركة الشباب فى قضايا الشأن العام وصناعة القرار والتخطيط والاستشراف، وجهود التنمية والعملية السياسية باتت ضرورة ملحة؛ بوصفه المكونة الاجتماعية المهيأة ديموغرافيا وإديولوجيا والجاهزة ذهنيا وفيزيولوجيا؛ لتشبثه بمبادئ الفتوة والاستقامة والقوة، وتمثله لقيم البذل والعطاء والتضحية التى تشكل وقود النجاح.
لا بد من مقاربة حكومية غير تقليدية، تتغيا وتنطلق من ضرورة مراعاة مختلف الحاجات المستجدة لشباب عصرنا الراهن؛ عصر القريةالكونية والمد العولمي العابر للحدود والقارات؛ لإعداده وتأهيله وتسليحه بالعلم والمعرفة؛ سبيلا إلى بناء وصقل الشخصية الشبابية وإكسابها المهارات والخبرات العلمية والعملية وتنمية مداركها العقلية، وفقا لمقاربة تفاعلية؛ وذلك لضمان تكيفها المتوازن مع المستجدات التقنية والتكنولوجية والأزمات القيمية والأخلاقية حتى لاتتحول – لا قدر الله- من أدوات بناء إلى معاول هدم.
ونحتاج إلى استراتيجية إعلامية لمواجهة الانحراف الفكري والسلوكي لدى الشباب، وتدركون جميعا التأثير البالغ للرسالة الإعلامية والاتصالية بكافة قنواتها ووسائلها التقليدية والجديدة، ومحورية الدور الذى تلعبه وسائط التواصل الاجتماعي فى تشويش الوعي وتزييف الواقع، وخلق هالة خيالية عبر العوالم الافتراضية بفضاءاتها المفتوحة ومنابرها المتعددة؛ مما يستوجب الارتقاء بمشهدنا الإعلامي لمواكبة هذه الظاهرة وخلق مناعة فكرية عن طريق إنتاج محتويات ومضامين رقمية؛ تعكس الأصالة والعمق والرصانة وتصون الهوية والخصوصية الحضارية.
ويتطلب ذلك من الجميع المساهمة فى ملإ الفراغ الفكري والوجداني، والتصدى الحازم لمداخل الغلو والتطرف، ومنازع الرفض والحقد ومواجهة الميوعة السياسية والخطاب التحريضي السمج؛ وذلك من خلال البرامج والمقاربات العلمية والمعرفية والاستعانة بأهل الشأن والاختصاص وكل من لهم صلة بقضايا الأمن الفكري؛ على مستوى الأسرة والمجتمع والدولة وكل مراكز ومؤسسات ومحاضن الإعلام والتعليم والتربية.
فنحن فى حاجة ماسة وضرورة حاقة إلى تضافر جهود الهيئات الحكومية والسياسية، والفعاليات الثقافية والاجتماعية والمنابر العلمية والأكاديمية والمؤسسات الإعلامية والتربوية؛ بغية صياغة رؤية موحدة وبلورة مقاربة ناجعة لتحصين شبابنا من الانزلاق فى مهاوى الفشل والفتنة، من خلال الإقلاع المتدرج والعبور الآمن إلى ضفة التآز والتآخي والمشاركة البناءة فى مستقبل الحكامة والتنمية.
ونحتاج فى الوقت ذاته إلى التأسيس لنهج جديد فى الحكامة، قائم على إشراك الشباب فى التسيير والإدارة وتفعيل آليات المساءلة والمحاسبة لإشاعة قيم النزاهة والشفافية والكفاءة المهنية فى إدارة المصادر البشرية وتسيير الموارد المالية، والبحث عن الخبرة والكفاءة، والقطيعة مع ممارسات الفساد والزبونية والمحسوبية، والحث الدائم على التسيير العقلاني الراشد للثروات والموارد العمومية؛ الموجهة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية وتحقيق الرفاهية للمواطنين؛ بوصفهم الثروة الحقيقية ووسيلة التنمية وغايتها.
وفى هذا السياق يتعين فى رأيى انتهاج استراتيجية وقائية استباقية؛ من خلال تفعيل أجهزة الرقابة ومتابعتها وتكثيف بعثات التفتيش ومضاعفتها، فضلا عن ضرورة اتباع مقاربة جديدة فى التعيينات؛ عمادها تكليف الأطر الأكفاء الذين هم “مظنة للإصلاح” وإقصاء أو إعفاء “أصحاب السوابق” فى سوء التسيير ونهب المال العام.
ولا يساورنى أدنى شك بأن محاربة الفساد خيار استراتيجي فى برنامج الرئيس ومشروعه السياسي والمجتمعي؛ وهو قرار حازم وحاسم ونابع من إرادة صادقة وصارمة، غير أنى فى المقابل على يقين بأنه فى ظل غياب قيم الحكامة الجيدة وحسن التسيير، فلا معنى للحديث عن البناء والتنمية والتعمير، فلا تنمية بدون تسيير مسؤول وشفاف يضمن مصداقية وفعالية ونجاعة أداء المرفق العمومي، ويكفل ترجمة السياسات والاستراتيجيات الحكومية إلى مشاريع وبرامج ميدانية ملموسة؛ تستجيب لأفق انتظار المواطن المتشوف والمتعطش لتلبية حاجاته الخدمية الآنية وتطلعاته التنموية المستقبلية.
د.محمد ولد عابدين – أستاذ جامعي وكاتب صحف