“مجانين المدينة”.. قصص عن المبدعين في تونس

تدفع المدن أحياناً مبدعيها نحو الجنون، وارتكاب الفضائح، وممارسة المحظور، ونحو طرق عمياء من دون دليل.

بعد فشل ما سمّي “الثورة” التونسية، وبعد أن فرغ الفضاء العام من الشعراء والروائيين والمسرحيين والنقّاد، نشاهد الذين قرّروا التوغّل عميقاً في الجنون، منذ اللحظة التي ازدحم فيها الفراغ، ورحل الرفاق، وضاقت سماء البلاد، واشتدّت الرقابة.

هؤلاء هم “صعاليك” المدينة أو ضحاياها، الذين تمرّدوا على أنفسهم، وعلى أشكال التسلط. “الشرق” تتناول حياة بعضهم، مثل السينمائي نصر الدين السهيلي، والرسّام عبد الحميد عمّار، و”شاعر الفوضى” عادل المسعودي.

نصر الدين السهيلي: “زيلينسكي تونس”

فنان تونسي، ظهر في العديد من الأعمال السينمائية والتلفزيونية كمخرج وممثل، ناشط سياسي ومتمرّد، انتقلت شهرته من ميدان الفن إلى مجال السياسة، بعد سلسلة مواقف غريبة وجريئة، كما أعلن ترشّحه للانتخابات الرئاسية المقبلة في تونس.

هو رجل متشعّب العلاقات، صديق العاطلين عن العمل، والمشرّدين والنشّالين والمثقفين، من شعراء وسينمائيين وروائيين ومسرحيين وحقوقيين وسياسيين.

يعرفه الجميع في المدينة، لأنّه كان كثير الحضور في التظاهرات الثقافية والسياسية منذ “الثورة” التونسية، بل وفاعلاً مباشراً في معظم المحطّات والأحداث التي شهدتها تونس.

عُرف في البداية كسينمائي وممثّل، ثم كسياسي، لكنّه عُرف أكثر من خلال ارتكابه الفضائح السياسية بشكل غير مسبوق.

سلوكياته كفنان، سوف تذكّرنا بتلك الممارسات التي أقدم عليها العديد من الفنانين في الغرب، أثناء الحرب العالمية وما بعدها، حيث اتهموا بالصعلكة والجنون وتخريب القيم والفوضى السياسية، كردّة فعل على بؤس الواقع.

 الثقافة والبيض

حين عمّت الفوضى في تونس عام 2013، وتعرّض بعض الفنانين للقمع والتنكيل، قرّر السهيلي أن يضع حداً لهذا الأمر.

في شهر أغسطس من العام نفسه، حيث كانت تجري إحدى الفعاليات الثقافية في قاعة ابن خلدون في العاصمة تونس، لم يتمالك السهيلي نفسه أمام خطاب وزير الشؤون الثقافية مهدي مبروك، تقدّم خطوة وراء خطوة، ثمّ رشقه بالبيض.

هذه الحادثة التي تمّ تصويرها من قِبل المصوّر الصحفي مراد المحرزي، تداولتها معظم وسائل الإعلام في تونس والعالم، وتحوّلت إلى جدل في الفضاء العام، واعتبرها الناس فضيحة ثقافية وسياسية، انتهت بتقديم  السهيلي إلى المحكمة.

 الجامعة الشعبية

عام 2016، عمد السهيلي بمبادرة من جمعية “1864”، و”اتحاد أصحاب الشهادات المعطلين عن العمل”، إلى تأسيس الجامعة الشعبية في سيدي حسين السيجومي، وهي المنطقة الأخطر في تونس وأكثرها فقراً وتهميشاً.

قال عنها في حوار أجراه معه الإعلامي كمال الهلالي، ونشره في مجلة “المفكرة القانونية” عام 2023: “في الجامعة الشعبية تخيّلنا أنه بإمكاننا تزويد أهلنا بالمعرفة، وتمكينهم من أدوات التعبير عن أنفسهم، وربط الصلة بين النخبة والجماهير”.

كان الرئيس التونسي الحالي قيس سعيّد، من الأسماء المواكبة لفعاليات الجامعة الأسبوعي، من خلال الحضور أو المشاركة في تقديم أوراق بحثية وتكوينية، تعنى بالمسائل القانونية التي شهدتها البلاد.

كات الجامعة ملتقى للفنانين والناشطين والجامعيين، في محاولة لتأثيث لقاءات مع المهمّشين والمنحرفين والعاطلين عن العمل، وفضلاً عن تقديم العروض المسرحية والسينمائية والورشات التدريبية والتكوينية، الهادفة إلى دمج المهمّشين في الحياة الاجتماعية.

لكن تجربة هذه الجامعة لم تستمر لأسباب سياسية ومالية، فضلاً عن حجم الضغط الذي تعرّضت له من قِبل المتشدّدين.

عالم المدينة السفلي

يعدّ الفيلم الوثائقي “لقشة من الدنيا” الذي أنجزه السهيلي، من أكثر الأفلام جدلاً في مسيرته الفنية.

لم يكتب السهيلي سيناريو الفيلم، ولم يعمد إلى توجيه الممثلين كما هو الحال أثناء إنجاز عمل سينمائي. بل كان عليه أن يأخذ معدّات التصوير، ويرافق بعض المنحرفين والمدمنين على المخدرات.

عاش معهم في المباني الخربة، حيث عالم الجريمة والسرقة والقتل والأوبئة. سجّل حياتهم الهامشية وتفاصيل أيامهم طيلة أربع سنوات، إلى أن توفّرت لديه مادّة تصويرية ضخمة، اشتغل عليها ووضعها في هذا الفيلم الوثائقي.

وحتى اليوم، نشاهد في الأزقة التونسية حيث الظلمات الدامسة، تلك الشخصيات التي رأيناها في هذا الفيلم، نشّالون ومتسوّلون ومدمنون وشاذّون، كما ظهروا في الشاشات السينمائية عام 2018.

أما الأكثر طرافة، فهو ظهور أولئك المشرّدين والمنحرفين على البساط الأحمر، أثناء فعاليات أيام قرطاج السينمائية، بعد إنجاز الفيلم، في العام نفسه.

تعمّد السهيلي إشراكهم وظهورهم أمام الناس، ولم يعد البساط الأحمر حكراً على النجوم من مخرجين وممثلين ومنتجين، بل تمّ اقتحامه من قبل الذين يعيشون على الهامش.

وقال عن الفيلم: “إنه يتحدّث عن حقيقتنا التي لا نرغب في معرفتها، بل ونخجل منها”.

مرشّح رئاسي

ربما تكون حقيقة تونس المخيفة التي تحدّث عنها السهيلي في فيلمه المذكور، إضافة إلى وعيه السياسي من خلال اقترابه من المجموعات اليسارية وتنظيماتها، هو ما جعله أخيراً يتقدّم بترشّحه للرئاسة، منافساً الرئيس الحالي قيس سعيّد.

بعد تعرّضه للملاحقة، هاجر إلى كندا في اللحظة الحاسمة قبل أن يتمّ القبض عليه. تحوّل الخبر إلى حديث الساعة في الأوساط الثقافية والسياسية، وأشعل مواقع التواصل بتعليقات متضاربة.

نشر السهيلي على صفحته التي أطلق عليها “الصفحة المستقبلية لرئاسة الجمهورية”، نصّ البلاغ المتعلق بحملته الانتخابية، وسرعان ما تلقفته وسائل الإعلام والمثقفين بالجدل.

بعضهم وصفوا السهيلي بـ “زيلينسكي تونس”، تشبّهاً برئيس أوكرانيا الذي كان ممثلاً كوميدياً، وبعضهم اتّهمه بالتعاطف مع المدمنين وتجّار المخدرات، بغاية السخرية منه، وبعضهم لم ينس قصّة البيضة التي رجم بها وزير الثقافة السابق، وآخرين رأوا أن فشله الإبداعي هو الذي قاده إلى العمل السياسي.

في المقابل، شهدت الحملة الانتخابية التي خاضها السهيلي، العديد من أشكال المساندة من قِبل ناشطين حقوقيين وسياسيين ومثقفين من مختلف الاختصاصات.

تحوّل السهيلي إلى نموذج للشخصية المنفلتة والغامضة والملهمة للعديد من الشباب الغاضب في الوسط الفني والسياسي في تونس.

في تدوينة له على حسابه في مواقع التواصل، صرّح السهيلي بأنه “تعرّض للتهديد والقمع وبأن السلطة كانت ترتّب لسجنه، وهو ما دفعه للخروج من تونس والاستقرار في كندا”.

أضاف: “عدت للاشتغال في السينما، وأنا الآن بصدد إعداد فيلم جديد تمّ تأجيله السنة الماضية، وليس صدفة أن يكون مكانه في مونتريال الكندية”.

 عبد الحميد عمّار: الرسّام الثري المتسوّل

لهذا الرسام قصص طريفة وعجيبة، فهو غريب الأطوار، متشرّد بلباس رثّ وأسمال بالية، ينبش في القمامة، ويتحدّث بصوت مرتفع مع نفسه، لكن لا أحد يمكنه أن يتخيّل إطلاقاً أن هذا الرجل هو الرسّام التونسي عبد الحميد عمّار، عضو شرفي في الأكاديمية العالمية للفنون في إيطاليا.

اختار حياة التشرّد عوضاً عن الثراء والمال، وقرّر في يوم ما أن يهب بيته لوزارة الشؤون الثقافية، كي تجعل منه متحفاً للفنون. تدور حوله شائعات كثيرة، ويقال إنه فاحش الثراء، لكنه اختار حياة التشرّد، ومريض نفسي اختار استخدام الخردة في رسوماته، وهو منبوذ في الوسط الفني.

سرعان ما أصبح عمّار حديث الساعة في تلك اللحظة التي كانت تودّع فيها تونس جثمان الرئيس الباجي قائد السبسي، الذي توفي بتاريخ 25 يوليو 2019.

كان يقف مع الجماهير، رافعاً يده اليمنى مودّعاً الرئيس، وعلى كتفه الأيسر يحمل كيساً مليئاً بقطع التقطها من القمامة، باكياً مثل الطفل، متّسخاً مثل رجل يخرج من تحت الأنقاض.

كفّ الجميع في تلك الليلة عن الحديث في الموضوعات السياسية، بعد أن تحوّلت صورة ذلك الرسّام التي ألهبت مواقع التواصل إلى جدل كبير.

الصورة لم تمرّ بسلام، فالسينمائيون والمسرحيون والكُتّاب في تونس، اتخذوا منها ذريعة لإعلان ثورتهم على وزارة الشؤون الثقافية، اعتراضاً على تهميش المبدعين.

الأمر الذي دفع وزير الثقافة آنذاك إلى استدعاء الرسّام إلى مقرّ الوزارة، ثم نشر صورة معه كي يخفّف من غضب المثقفين. وحتى اليوم يمكن لسكّان العاصمة التونسية أن يشاهدوه في الشوارع، بلحيته الكثّة والغزيرة وهيئته الغريبة.

عادل المسعودي: الشاعر الذي أكل الكتب من شدّة الجوع

يطلق عليه اسم “عادل فوضى”، ذلك أن حياته تشبه الجحيم الذي لا يطاق، يمشي وحيداً، يغنّي وحيداً، يكتب الشعر ويقرأه في الحانات ساخراً من المثقفين والسياسيين.

قبل وفاته في فبراير الماضي، كان لا يمكن التواصل معه إطلاقاً، فهو لا يستخدم الهاتف، وليس لديه حساب على مواقع التواصل، ولكن من السهل العثور عليه.

سوف نجده أين نعثر على الكتب المستعملة، تلك التي تباع على قارعة الطريق، وسوف نجده في آخر الليل مدثرا بمعطف متّسخ تحت وابل الأمطار في الأزقّة الخلفية للمدينة.

عُرف عادل باقترابه من المجموعات اليسارية، أسّس مع الناشطين السياسيين جريدة أطلق عليها اسم “فلاقة”.

في كثير من الأحيان، كان يأخذ بعضها ويوزّعها على المارّة والناس والطلاب، رافعاً هذا الشعار: “آن الأوان كي تتسلحوا بالثقافة”، علماً أنه يعتاش على بيع الكتب القديمة المهملة.

كان عادل في لحظاته الأخيرة يحتاج إلى رغيف خبز، ويحتاج إلى معطف بعد أن استوطن البرد عظامه الهزيلة، وإلى بيت ينام فيه. عادل هو شاعر الفقراء، شاعر الإسفلت والجوع، عاش فقيراً وزاهداً، لكنه ترك ثروة اسمها الكتب.

حين مات، تذكّره رفاقه وتنافسوا في المقبرة حول تأبينه.

المصدر: الشرق

زر الذهاب إلى الأعلى