تمكين الشباب.. بين الفرص الثمينة والتحديات الكبيرة.. / د.أمّاني ولد محمد سيدي

يعتبر العامل البشري من أهم عوامل تقدم البلدان وازدهارها، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، خاصة إذا تم استغلاله بالطريقة المثلى التي تتيح الاستفادة من الطاقات والخبرات وترشيدها وتوجيهها حسب الحاجات والأولويات. ومن البديهي أن يكون الشباب هم الطليعة في مسار ومسيرة العمل والإنتاج والتطوير، وذلك لاعتبارات عدة، يمكن أن نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر القوة والنشاط والحماس والتجديد والابتكار.

في إطار التخطيط الاستراتيجي للكثير من البلدان المتقدمة في أوروبا وأمريكا، ونظرًا للتحديات التي تواجهها مجتمعاتها كالشيخوخة وغيرها، وإدراكًا منها لأهمية العامل البشري في استمرار التطور والهيمنة الاقتصادية، فتحت هذه البلدان أبوابها وسهّلت عبور حدودها أمام المهاجرين الشباب، وعدّلت قوانينها من أجل تبسيط عملية إقامتهم ودمجهم في المجتمع بغية الاستفادة من طاقاتهم وخبراتهم في مواصلة تحريك عجلة التنمية. وقد نجحت إلى حد كبير في استقطاب المهاجرين الشباب من مختلف القارات والشعوب، وبالأخص من القارة الإفريقية والشعوب العربية.

تعتبر القارة الإفريقية موطن الشباب مقارنة بغيرها من القارات، حيث تمثل هذه الفئة العمرية نسبة 60% من عموم شعوب إفريقيا، كما يمثل الشباب في الدول العربية أكثر من 30%، إلا أن الدول الإفريقية وكذلك العربية، بشكل عام، لا زالت تتذيل اقتصادات العالم، على الرغم من الموارد البشرية الهائلة والثروات الطبيعية المتنوعة. وللتوضيح، فإن هذا التردي الحاصل يرجع إلى عوامل مركبة ومتعددة يتداخل فيها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والدولي، ومع ذلك فإن عدم قدرة هذه الدول على الاستفادة من العالم البشري لا يمكن غض الطرف عنه كسبب معتبر في واقعها المزري.

تواجه كل دولة في العالم، وخاصة في إفريقيا والمنطقة العربية، تحديات متعددة بمستويات مختلفة وذلك بحسب واقعها الداخلي، وموقعها الجغرافي، وطموحها ومنافسيها. ناهيك عن الوضع العالمي بكل أبعاده الذي يشكل تحديًا مشتركًا. وليست بلادنا استثناء من نظيراتها، فواقعنا الداخلي بكل إشكالاته، وموقعنا الجغرافي في منطقة الساحل وعلى ضفاف الأطلسي وما يوفره من فرص، وما يفرضه من صعوبات، وطموحاتنا التنموية والاقتصادية القريبة والبعيدة المدى، وتعدد منافسينا وخصومنا المتربصين بنا، كلها عوامل تشكل تحديات جمة ينبغي أخذها بعين الاعتبار.

إن موريتانيا، كغيرها من الدول الإفريقية والعربية، تواجه تحديات كثيرة وكبيرة كما سلف، ولكنها في نفس الوقت تتوفر على عامل بشري “شاب” يمكن الاستفادة منه لمواجهة التحديات وتحقيق الأهداف والطموحات، حيث تبلغ نسبة من هم دون 15 سنة أزيد من 44% من الشعب، بينما تتجاوز نسبة من هم دون 35 سنة 76%. وعلى الرغم من هذه النسب المهمة، إلا أن النتيجة المُنتَظَرِ تحقيقها بفضل الشباب في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، وتنمية البلد وتقدمه لم تحصل بعد، وذلك لعوامل كثيرة ومتشعبة، ولكن ليس أقلها أهمية عدم تمكين الشباب “فعليًا” من القيام بدوره في البلد. بل على العكس، تم إبعاده وازدراؤه والتقليل من شأنه على مدى فترات طويلة، بينما يتم التجديد لساسة ومسؤولين خدموا البلد لعقود وآن أوان تقاعدهم ككل المسؤولين في العالم، بدل التجديد لهم و “تمكينهم”. هذا بينما يتم تخدير الشباب عن طريق رفع الشعارات وإنشاء برامج ووكالات التمويل العشوائي البعيد كل البعد عن المهنية والابتكار. الأمر الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه الآن، حيث هاجر آلاف الشباب في ظرفية إقليمية حساسة ووضع دولي ضبابي سيحتاج فيه كل بلد لا محالة إلى سواعد شبابه وأفكارهم عاجلًا غير آجل!

يعتبر تعهد رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني بجعل مأموريته الرئاسية الثانية للشباب وبالشباب التِفاتَة مهمة وفي محلها، إذ لا يمكن لأي دولة في العالم أن تسير بخطى ثابتة في مسار التطور والازدهار سوى بالاعتماد على شبابها كمحرك رئيسي لعجلة التنمية. إن هذا التمكين، إذا ما تم بالشكل المطلوب والمنتظر، سيشكل منعطفًا مهمًا في تاريخ البلد ومسيرته، إذ سيتولى الشباب التفكير والتخطيط والتنفيذ في أهم مشاريع ومؤسسات الدولة وفي القطاع الخاص، مما سيسمح بانطلاقة حقيقية في المسار الصحيح والنسق السليم لتحقيق نتائج اقتصادية وسياسية واجتماعية معتبرة. ومما لا شك فيه أن تمكين الشباب في مختلف المجالات ليس بالسهولة بمكان، لما سيعترضه من عراقيل وعقبات سيضعها القريب والغريب توجسًا من المحطة التي ستصل إليها بلادنا في حال القيام بذلك، ولكنه عمل لا ينبغي التراجع عنه ولا التراخي فيه مهما كانت تكلفته وتحدياته، لأن البلاد تحتاج وتستحق أن يخدمها شبابها بكل طاقاتهم وقدراتهم.

إن التمكين للشباب لا يتم عبر تمويل المشاريع الصغيرة كما كان يحدث في العهود السابقة، والذي بالمناسبة لم يحقق نتيجة تُذكر سوى هدر الأموال في مشاريع صورية وأغلبها لا وجود له على أرض الواقع، وإن وجدت فأصحابها يعانون من الفشل وغياب التأطير وتراكم الديون والمستحقات. وهذه نتيجة طبيعية لبداية غير مؤسسة على أساس محكم وسليم ومدروس. كما أن التمكين للشباب لا يمكن أن يتم عبر تشكيل مجالس للشباب لا تستطيع تقديم استشارة أو إحاطة أو دراسة.

إن التمكين للشباب يبدأ بالابتعاد أولًا عن المحسوبية والزبونية والجهوية والقبلية والفئوية، فشباب موريتانيا مستعدون لخدمة موريتانيا.. كل موريتانيا، بغض النظر عن كل الاعتبارات الضيقة التي لم تجن بلادنا منها سوى الويلات والتردي.

إن أول خطوة هي البدء بإحصاء وجرد كافة الكفاءات الوطنية داخل البلاد وخارجها، وتحديد الموجود من العاطلين عن العمل حسب التخصصات والمجالات والمدن، سواء من حاملي الشهادات العليا أو الفنيين والتقنيين والحرفيين. ومن ثم وضع استراتيجية متكاملة تهدف إلى جعل الشباب في الطليعة الاقتصادية والمهنية والعلمية والاجتماعية والسياسية.

إن التمكين الاقتصادي المدروس سيُوجد طبقة من رجال الأعمال الشباب في مختلف المجالات والقطاعات، وسيمكّن بلادنا من الابتكار في الصناعات وتصدير منتوجاتنا وخدماتنا إلى مختلف دول العالم بدلًا من التركيز على استيراد المواد الغذائية وبعض المجالات المعدودة كما هو حال أغلب رجال أعمالنا. إن خلق طبقة اقتصادية من رجال الأعمال الشباب سيساهم إلى حد كبير في الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي للبلد وينبغي أن يراعى فيه تنويع التخصصات والمجموعات والجهات. يمكن البدء في التمكين الاقتصادي بتمويل مشاريع “نوعية” مبتكرة في مختلف المدن، ولكن شريطة أن تكون مدروسة بشكل جيد ومبنية على أساس سليم وتلبي حاجة للوطن والمواطن، ويتم تأطير المشرفين عليها ومراقبتهم إداريًا وماليًا. ويمكن أن تكون للدولة نسبة في أسهم كل مشروع، وفي حال تحقيق نتائج معتبرة يمكن أن تتم مكافأة المشرفين بتمويلٍ لمشروع جديد في مجال أو قطاع آخر. ومع توسع النشاط الاقتصادي لرجال الأعمال الشباب ستقوم هذه المشاريع بامتصاص البطالة عبر توفير فرص عمل دائمة. كما يجب إشراك شركات الشباب في الصفقات العمومية ومنحهم الامتيازات والتخفيضات والاعفاءات اللازمة حتى تنهض مؤسساتهم، بدلًا من وضع شروط مجحفة لا يمكن أن توفرها سوى المؤسسات العريقة التي أنجزت عشرات إن لم تكن مئات المشاريع بكل أحجامها، هذا طبعا مع مراعاة الجودة وفرضها ومراقبة مدى الالتزام بها.

في جانب التمكين المهني، يعتبر اكتتاب وتوظيف الشباب أمرًا ملحًا في مختلف المجالات، وخاصة أن بلادنا تعاني نقصًا كبيرًا في قطاعات رئيسية وحساسة، كالتعليم والصحة والأمن. ومع أنه تم تنظيم العديد من عمليات الاكتتاب في السنوات الماضية، إلا أن الحاجة لا تزال ملحة لاكتتاب المزيد مع ضرورة مراجعة الرواتب والتحفيزات. كما أنه يجب تعيين الشباب في مختلف المناصب الحكومية سواء الوزارية أو الإدارية أو الرقابية. وبما أنه من المعلوم أن الوظيفة العمومية لا يمكن أن تستوعب كافة الخريجين، فإنه من الضروري إلزام الشركات في القطاع الخاص باكتتاب موظفين من الشباب وتوفير حقوقهم كاملة، وبالأخص الشركات الأجنبية التي تهمل اليد العاملة الوطنية وتستبدلها بالأجنبية في تحد صارخ لنظام مرتنة الوظائف.

لا يمكن الحديث عن التمكين للشباب مع إهمال الجانب العلمي، حيث تزخر بلادنا بقامات علمية شبابية في مختلف المجالات، ولكنها نتيجة الإهمال واعتبارًا لمستواها العلمي أو بسبب رأيها السياسي آثرت الانزواء بعيدًا عن الأضواء أو الهجرة إلى الخارج، مما حرم بلادنا من الاستفادة من خبراتها، وقد كان للبعض دور في ذلك لسبب أو لآخر، وهو ما لم يكن ينبغي. يمكن أن يحصل التمكين العلمي عبر إنزال الناس منازلهم، بحيث يتم اكتتابهم في مؤسسات التعليم العالي، وتشجيع البحث العلمي والابتكار، وتمويل النشاطات العلمية والأكاديمية وتقديمهم في المؤسسات الدولية كممثلين للبلد.

بالنسبة للجانب الاجتماعي، أول ما يجب البدء به هو توفير السكن اللائق عبر تسهيل الحصول عليه سواء عبر توزيع القطع الأرضية مجانا على الموظفين الشباب وتسهيل الحصول على تمويل للبناء من طرف الصناديق الحكومية أو البنوك الخصوصية بشروط معقولة ومنطقية، أو عبر توفير سكن اجتماعي جيد في مناطق مأهولة ومعتبرة يتم تسديد مستحقاتها عبر أقساط مريحة غير مجحفة. بالتوازي مع ذلك، يجب توفير فضاءات ثقافية ورياضية جيدة ومرتبة ومنظمة في كل المقاطعات والمدن حيث يمكن للشباب الاستزادة من المعرفة وبناء أجسادٍ قوية وسليمة يمكن أن تساهم في خدمة الوطن فالعقل السليم في السليم.  سيكون لتمكين الشباب اجتماعيا دور محوري في نشر الوعي في صفوف المواطنين، وكذلك تماسك المجتمع وانسجامه وتطوره. يمكن نشر الوعي عن طريق البدء بالتأطير على الخطوط العريضة التي تهدف الدولة ومؤسساتها إلى ترسيخها في المجتمع، ومن ثم تشجيع وتمويل المنظمات والمبادرات الفردية والجماعية التطوعية التي تلعب دورًا في هذا الإطار. كما يمكن فرز قدوات شابة في مختلف مناحي الحياة من أجل توجيه وإرشاد المجتمع وضبطه وتأطيره والمحافظة عليه من الانزلاق إلى ممارسات ضارة وغير أخلاقية كالشذوذ والمخدرات والعنصرية والغلو. إن الاستثمار في قدوات اجتماعية من الشباب يمكن أن يحقق نتائج باهرة لا يمكن قياسها، وخاصة في وقت “الضرورة”!

إن التمكين السياسي للشباب أولوية قصوى، وقد كان إنشاء لائحة خاصة بالشباب في البرلمان خطوة مهمة في هذا الصدد، إلا أنه يمكن عمل المزيد عبر نشر الوعي السياسي في صفوف الشباب، وإشراكهم في هيئات ومؤسسات رقابة الانتخابات، ودعم المبادرات والتيارات السياسية، وفرض وجودهم في الهيئات والمكاتب التنفيذية للأحزاب والمنظمات السياسية، وحث الأحزاب على تقديم مرشحين شباب من مختلف فئات وشرائح المجتمع.

وختامًا، أجدد التذكير بالتحديات المختلفة التي تواجهها بلادنا والتي لا يمكن التغلب عليها سوى بالاستناد إلى طاقات وقدرات الشباب. وبالتالي فإن بلادنا أمام فرصة ثمينة لا يمكن تفويتها، وخاصة بعد تعهد السيد رئيس الجمهورية بها، حيث كرر مرارًا في كل خطاباته أن المأمورية هي مأمورية للشباب وبالشباب، وأكد على ذلك في حفل التنصيب. إن تحقيق هذا التعهد سينقل بلادنا أشواطًا عديدة إلى الأمام في مسيرة التنمية والازدهار والابتكار، بحيث نكون رقمًا صعبًا في شبه المنطقة والقارة الإفريقية، ويُحسَبُ لنا ألف حساب من طرف العدو والصديق. إن التمكين “الفعلي” للشباب يمكن أن يحقق لبلادنا معجزات اقتصادية وتنموية إذا ما تم بشكل صحيح وسليم وفق خطة محكمة ومضبوطة.

يقول الشاعر إيليا أبو ماضي:
إِذا أَنا أَكبَرتُ شَأنَ الشَبابِ.. فَإِنَّ الشَبابَ أَبو المُعجِزات
حُصونُ البِلاد وَأَسوارُها.. إِذا نامَ حُرّاسُها وَالحُماة

بقلم د. أمّاني ولد محمد سيدي / أستاذ جامعي

زر الذهاب إلى الأعلى