نحو فهم أو تأويل جديد للسياسة بموريتانيا/ الدكتور باب سيدأحمد لعلي
“إن جماعة الأنداد هي التي تحدد أساسا مجموع أدوار الفرد، ذلك أن الفرد يخضع لضغوط الأنداد ويقبل المعايير التي يضعونها لتصبح أمرا بديهيا لديه”
رالف دارندروف
وإذا تحدد مسار الفاعلية وتكررت صيغتها بأشكال مختلفة، ومن خلال فاعلين مختلفين، فإن المعنى الاجتماعي المُعبِّر عن ذلك يكون أكثر وضوحاُ لتكرر الأحداث بصيغات مختلفة.
تكون تلك الجدلية أكثر وضوحا تطبيقا على فاعلي موريتانيا السياسيين منذ بدء الحكم المُدمقرط، فالأنداد المعارضون يتحركون ضمن نفس النسق وبنفس الخطابات ونفس المطالب، وكذلك الفاعلون الموالون أو المشرعون للفعل السياسي، وإن تعمقنا في المقاصد بحثا عن المعنى الاجتماعي يتصدى في أفق التحليل وسمته مفهوم آخر أكثر تجذرا وانسجاما وإحاطة بتلك الفاعلية، يمكن أن نعبر عنه بـ”الحَظرَة” بما تعنيه من دلالات مستنبطة من عمق الثقافة الحسانية ولغتها، غير أن تفكيك تلك المعاني في بناء الدولة يكون أصعب قليلا خصوصا أننا أمام بناء يتمازج فيه التقليدي المُستحكم مع المستورد وإن عجز بحال من الأحوال عن توطين نفسه محليا فينا.
فنفس الشعارات التي رفعتها جماعة الأنداد أيام بداية التعددية الحزبية على مختلف ألوانهم ومقاصدهم، هي المرفوعة الآن وإن كان ثمة اختلاف فيكون شكليا جدا، وهو ما يعني الدوران في حلقة مفرغة بدلا من تحقيق التقدم والتطور المنشود.
وفي ظل عجز الدولة عن ضبط الشخصية السياسية للمجتمع، وفي ظل تحور الدمقراطية والحكم الليبرالي تبعا لضغط تلك الطبيعة المستحكمة والتي باتت الدولة تستفيد منها في تجذير سلطتها أو إطالة مدى تعايشها مع المجتمع، تنبثق في كل آونة تساؤلات كبيرة ناتجة عن ضغط تلك الطبيعة في مجتمع باتت خيارات الديمقراطية فيه تُنتج الإشكالات العرقية والقبلية على تعددها فيه أكثر مما تُفرز توافقات مرضية حول المسار الوطني الجامع.
وحين ذلك يظل السؤال الجوهري الكبير والمستحكم في فضاء هذا الواقع يدور حول طبيعة الفاعلية وتجذرها شكلا ومعنى؟، فضلا عن غرائبية ما تفرز من جرجرة للبناء الاجتماعي للخلف بدلا من مساعي تحسينه؟، وعن طبيعة الدولة ذاتها التي تهتم بالاحتواء أكثر من اهتمامها بحل الإشكالات على ما فيها من رُعب وعلى ما تحمل من خطابات قد لا ترقى لمستوى ما تسعى له الدول في تطبيقها للديمقراطية كشعار وكحل قُدم في الغالب على أنه أنجع خيار لتداول السلطة بين الشعب وإنتاج خياراته.
وفضلا عن ذلك وفي ظل تفكيك عبارات “دارندروف” اسقاطا على الواقع الاجتماعي الذي نعيشه على ما فيه من استحكام للطبيعة ووضوح للمقاصد المتخفية خلف الأفعال السياسية والخطابات المختلفة، فإن مسألة السياسية كلها تشغل حيّزا لا بأس به في ميادين الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع، وإن كانت فلسفة العقد الاجتماعي التي أطرت الفعل السياسي العالمي وشكلت مرجعية كبرى للدولة المعاصرة عالميا، ترى أن المجتمع القبلي يفتقر للسياسة وأن السياسة لا تتحقق إلا في مجتمع الدولة الذي تنعدم فيه القرابة، فالمجتمع السياسي حسب “هوبز” هو الذي يتكون ضمن تشكل الدولة أي بعد انتقال المجتمع من الحالة الطبيعية إلى الحالة السياسية، ورغم أن أحد أبرز منظري الاتجاه التطوري “لويس مورغان” وافق تلك النظرة في جوانب باعتباره أن المجتمع القبلي ليس مجتمعا سياسي نظرا لتحكم بنى القرابة، فإن نظرة الانثربولوجيا معاصرا تجاوزت ذلك المنطق مع جورج بلاندييه الذي رأى أن القرابة منحت السياسة نموذجها ولغتها، فالعلاقات السياسية يعبر عنها كثيرا بمفردات القرابة.
ومع أن المجتمعات التي شكلت مرجعا في شكلها وبنياتها لدراسات بلاندييه هي مجتمعات إفريقية بما فيها موريتانيا، فإن هذا المنطق هو ما سمح بتزاوج منطق الدولة مع منطق فاعلية السياسة باستحكام القرابة كبنية وكوسيلة من وسائل التأثير والغلبة حسب منطق ابن خلدون، تجاوزا للنظرة التقليدية، وهو ما يسمح لنا بتوطين السياسة ضمن مؤسسات الدولة الحديثة المُصطنعة طبعا كتعبير فقط عن طبيعة اجتماعية خالصة، في ظرف تحاول فيه مجتمعات ما وراء البحار –كما كانت توصف إبان حرمانها من وصف المجتمعات السياسية- تجاوز عقدة البدائية واحتواء الدولة كبنية واقعية وكأساس للتشكل والتواجد الفعلي ضمن عالم اليوم.
على ذلك الأساس تكون مسألة توطين الدولة كسلطة هي أهم المحاور التي ينبثق منها العمل السياسي والنخبوي في هذه المجتمعات، وبغض النظر عن ما يُنتج ذلك التوطين، فإن إشكالية المجتمع المركب حسب تعبير باسكون أو الفرد المركب تكون هي الحاجز الأوحد أمام تجذر المواطنة كوعي والدولة كبناء ذهني قبل تجسده واقعيا، نظرا لتفاعل المفاهيم التقليدية المؤسسة للشخصية الاجتماعية والأخرى المستوردة، والتي فرضتها إملاءات بناء الدولة الجديدة على انقاض مختلف الخلفيات الاجتماعية المتجذرة.
وتظل المسايرة هي العنوان والسمة البارزة للشخصية الاجتماعية والمحدد الأبرز لطبيعة تلك الفاعلية، فالقيم الليبرالية ومحددات الديمقراطية لم توطن بقدرما امتزجت بنكهة خاصة في تلك الطبيعة التي تفرض على السياسة والسياسيين التعاطي بلغة القرابة أولا بدلا من لغة الفكر والتوجه، وإن كان العقل المحلي استوعب مرحليا بفعل تأثره بالحركات الإيديولوجية الكبيرة التي صاحبت حركات التحرر وتزامنت مع ميلاد الدول المستعمرة، فإن باب التعددية الحزبية واللجوء دون تأهيل للنظام الديمقراطي جعل العقل الذي أطر الفعل السياسي بالمنطق السابق يلجأ للحس التقليدي على ما فيه من قيم عتيقة ومتنافية بالمنطق الليبرالي مع أساس بناء الدولة المعاصرة، بحثا عن التأثير والواجهة حسب المنطق الاجتماعي رغما عن كل اعتبار.
من هنا كانت المزاوجة تفرض نفسها بمنطق التعاطي المحلي الخاص لا بقواعد الآتي المعصرن، فزاحمت القيم الحزبية القيم القبلية والجهوية والعرقية، ورغم أن شرعية الكلام عن الدولة في هذا السياق تُجاوزت علميا حسب براديمغات العلم الاجتماعي المعاصر كما شهدنا مع بلانديه إلا أن جدلية الخصوصي وفشل توطين القيم الغربية في هذا الفضاء يطرح الكثير من الإشكالات الأخرى، والتي باتت في اللاوعي المتحكم تفرض نفسها من أجل التعامل معها كخط أحمر يهدد الأمن.
ثم إن جماعة الأنداد حسب تعبير “دارندروف” لا تملك في جو التشاحن إلا ما حددته مسبقا لها الجماعة الأخرى، وإن كان “دارندروف” طبّق نظريته في المجتمعات الصناعية، فإن السياسة التي تمتزج بالصراعات ذات النفس العرقي والقبلي، في الدُّول المعاصرة أقرب إلى الوصول لمعنى الحركة وطبيعتها، في سياق تتوحد فيه مصالح الجماعتين بطرح مختلف.
إن القيم التي يجب أن تُبنى عليها الدولة يجب أن تكون مُطبقة لمبدأ الانسجام الاجتماعي ولو تمسك الفاعلون بالمنطق التقليدي وما يمليه من تضارب وتشاحن، ولو بقيّ الباب مفتوحا للخطابات العرقية التي تهدد كيان دولة التي لا يزال منطق السلطة فيها بشكل عام عاجز عن توطين نفسه في العمق الاجتماعي وحصوله على شرعيته دون استخدام ثنائيات الترغيب والترهيب لكان الأمر مُمهدا لطيغان سلطات تنافس الدولة في سيادتها وتؤدي إلى خلل اجتماعي أعمق مما يمكن التحكم فيه.
#فتفكروا