كيف نفسر قيام ولد عبدالعزيز بإيداع ملف ترشحه؟ / محمد الحسن محمد الأمين

أذنت محكمة الاستئناف  للرئيس السابق محمد ولد عبدالعزيز بإيداع ملف ترشحه للانتخابات الرئاسية، وهو خبر يستحق أن نقف عنده وقفة تأمل وتأمل وتأمل …خاصة أن العلاقة بين المُحمَّدين خامرها في السنوات الأخيرة كثير من الغموض.
تاريخ مشترك
ظل المحمدان على قلب رجل واحد منذ دراستهما في الأكادمية العسكرية بمدينة مكناس المغربية، وما يدريك أنهما وضعا  أيام الدراسة استراتجية تهدف إلى حكم الدولة عقودا من الزمن إذ كان دورهما بارزا في صراعات ومواقف مختلفة بعد ذلك.
وإذا قمنا باستقراء تاريخ الرجلين على عجل سنجد أنهما مرّا بثلاث مراحل أساسية :
1)    مرحلة إدارة البلاد خلف الستار: وهي مرحلة صنعت تاريخ موريتانيا الحديث وتركت أثرا كبيرا خلال العقدين الأخيرين، وقد بلغت ذروتها  بعد قيامهما بانقلاب عسكري على الرئيس معاوية ولد الطايع سنة 2005 م.
ثم بذلا قصارى جهدهما في الذود عن استراتجية “اغتصاب المؤسسة العسكرية للحكم تحت جنح الظلام”، فلم يخفَ دهاؤهما في دعم الرئيس المدني سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله عام 2007م موصدين الباب أمام انتخاب زعيم المعارضة أحمد ولد داداه….الخ
2)    مرحلة الوفاق على إدارة البلاد بشكل مباشر: سخط المُحمّدان على الرئيس المدني سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله حين سعى لترسيخ أساطين الحكم المدني وهو ما يعود على الاستراتجية التي ذكرنا آنفا بالنقض والإبطال، فقررا أن يتوليا الحكم بشكل مباشر… ثم استقال ولدُ عبد العزيز من الجيش عام 2009، وترشح للانتخابات الرئاسية ليحكم البلاد عقدا من الزمن فصاحبُه.
3)    مرحلة ما بعد انتخاب ولد الغزواني: هنا حطّ الساقي قِربته فلم تمض بعد انتخاب ول غزواني إلا أيام معدودة حتى رجع صاحبُه من الخارج وبدأ الخلاف بينهما فيما يظهر للناس، ولن نخوض في سرد تلك الأحداث إذ هي معلومة مشهورة إلا بقدر ما نسلط الضوء على المعيار الذي توزن به العلاقة بين الرجلين.
يجب على من يسعى لإجلاء طبيعة العلاقة بين المحمدين أن يلقي أولا نظرة على طريقة تفكيرهما في المواقف التاريخية والملاحم الكبيرة، وأن يناقش ثانيا دورهما ووزنهما في الدولة العميقة وهو ما يستدعي معطيات غير موجودة لكن ثمة قرائن يمكن البناء عليها، وأن يبحث ثالثا عن المستفيد من الصراع بينهما في الفترة الأخيرة.
لقد اعتمد المحمدان سياسة التمويه أحايين كثيرة، يتجلّى ذلك أولا في قيامها بإحباط انقلاب صالح ولد حننا ليقوما مقامه بعد حين ويظفرا بالنصر وإدارة البلاد خلف الستار، ويتجلّى – أيضا- في دعمهما للرئيس المدني سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، وما ناصراه إلا ليوصدا الباب أمام المعارضة يوم كانت قادرة على النصر، فإن طاوعهما استمرا في إدارة البلاد خلف الستار وإلا هان عليهما أن يُنزلاه بعد أن تمكّنا به، فلا شك أن “سياسة التمويه” هي أكثر شيء يتقنه المُحمّدان كما تدل على ذلك أحداث كثيرة دلالة مطابقة.
أما وزنهما في الدولة العميقة فلا ريب أنه يختلف باختلاف الزمان والمكان، فقد ذلّلَا طريق الحكم للعساكر بل استطاعا أن ينجحا في معركة النفوس، فاعتقد الناس أن التغيير مستحيل وأن الدولة لا يمكن أن يحكمها غير العسكر وهو شيء لم ينجح فيه من قبل نظراؤهم، فما استكان الشعب من قبل كما استكان وخضع لهما رغم أنه لم يتغير أي شيء.
إن اصطحاب مسألتيْ “سياسة التمويه” وكون المحمدان ليسا إلا “أداتين” من أدوات الدولة العميقة، ظهرا في ثوب الفاعل، وهما في محلّ مفعول به بُني فعلُه للمجهول، نعم. إنه فعل جَهل الشعب فاعلَه الحقيقي الذي يتجسد في رجال الظلّ أو بعبارة أخرى في “الدولة العميقة”… إن اصطحاب المسألتين يُظهِر من انتفع بصراعهما واصطنعه بيده.
من المستفيد من صراع المُحمّدين؟
أعلم أن لكل قارئ رأيا فيه وأغلب الأجوبة لن يخرج عن أعداء النظام السابق من الإسلاميين وغيرهم لكنّ الاصطحاب الذي ذكرنا آنفا ينفي ذلك.
لم يؤرق الدولة العميقة في العقد الأخير عدو غير الإسلاميين الذين انتزعوا زعامة المعارضة فجأة، وقد اقتضت الاستراتيجية التي وضعها رجال الظل كما دلت على ذلك الأحداث خطتين متلازمتين منطقيا.
الخطة الأولى : وهي أن يُشدّد على الإسلاميين باستهداف مراكزهم ومؤسساتهم التي تنشط في التعليم وتخرِّجُ من يرفعون راية الإسلام السياسي في كل مكان ويدعون إليه في أهليهم وقبائلهم ومدنهم، فيُغلق مركز تكوين العلماء وجامعة عبدالله بن ياسين ومعهد ورش وجمعية المستقبل … وهلم جرا.
ويُشدَّد عليهم -أيضا- باستهداف جمعياتهم الخيرية التي تنشر حبهم بين الناس وملاحقة رجال الأعمال الذين يُعدَّون منهم، وما زالت الدولة العميقة كما تقتضي الخطة الأولى تُقيّدُهم وتوصد أمامهم كل باب حتى تحدث الناس عن سحب ترخيص تواصل.
الخطة الثانية: تقتضي استغلال الخطة الأولى على وجه يوهم الإسلاميين بوجود تغيير جذري في الدولة أو رؤية جديدة للواقع تفتح لهم ما أوصد من أبواب  وتمدّ إليهم حبال الوصل بعد ذلك الجفاء الذي أضعف عزيمة بعضهم، وليس هدف الاستراتيجية كلّها إلا تفكيك منظومتهم في موريتانيا، وهذا هو التفسير المنطقي لما حدث من انسحابات في حزب تواصل.
ولم يكن ذكر الخطتين – فيما تقدّم – دون المحمدين إلا استحضارا لدورهما الحقيقي كأداة في يد الدولة العميقة ليس إلا، وهي التي فرقت بينهما لتقضي على آخر خصومها من إسلاميين وغيرهم بسياسة الاحتضان بعد الجفاء، وهي التي ستجمع بينهما غدا إذا اقتضت الحاجة ذلك.
ومن هذا المنطلق يمكن أن نفسر إقدام محمد الأول على إيداع ملفه، بل يمكن أن نجد تفسيرا لكثير من الأشياء التي لم نستوعب حقيقتها، ونذكر منها على سبيل المثال:
–    وجود أغلب رجال محمد الأول في نظام محمد الثاني، وهو أمر يستحيل عقلا لو لم يكن ثمة متصرف تُبنى أفعاله للمجهول، ولا نرى إلا ما ينوب عنه في عمله.
–    لم يستطع الإسلاميون الذين انضموا إلى النظام أن يشغلوا مناصب كبيرة في الدولة.
–    استمرار نظام محمد الأخير في  نهج الأول  إن لم يكن أدهى وأمر، كل ذلك يدل على أنه لم يتغير أي شيء وإنما هو شَرَكٌ اصطاد به رجال الظل خصومهم واحدا وحدا.
وخلاصة القول إن كل الأحداث التي جرت بعد انتخاب غزواني لم نجد لها تفسيرا مقنعا، وعدم وجود تفسير منطقي لأي صراع دليل على اصطناعه… بل هو تمويه استراتيجي استطاع من خلاله العسكر أن يحكم على خصمه الأول “الإسلاميين” بالتفرق والضعف… ولا يمكن استبعاد عودة عزيز للحكم ولو بعد انتهاء المأمورية القادمة إذ لا يوجد سبب واحد للخلاف بين المحمدين والدولة قسمة بينهم منذ عقدين من الزمن.

زر الذهاب إلى الأعلى