رئاسة الاتحاد الإفريقي.. استحقاق المسؤولية/ محمد عبد الله ولد لحبيب
عندما حدق رؤساء الوفود الإفريقية إلى منصة القيادة استدارت معهم آمال قارة تحلم بعام أفضل من الذي تودعه. انتقلت شارة القيادة إلى موريتانيا حاملة معها استحقاقات لكثير من التسويات الملحة، والمعالجات التي لا بد أن تجمع بين نقيضي الرصانة والاستعجال.
اختارت القارة بإجماع نادر موريتانيا التي يبدو أنها أصبحت محل إجماع داخل القارة نصف السمراء، وحققت لأول مكانة تناسب موقعها الاستراتيجي، وتستلهم من تركيبتها الفريدة في القارة، إن لم يكن في العالم
استحقاق القيادة
لا تلقي المنظمات الإقليمية صك قيادتها في طريق كل الباحثين عنه، ولكن ديناميكيات داخلية، تتصارع فيها الأبعاد السياسية والدبلوماسية، والأمنية، والاستحقاقات القارية والعالمية، تتفاعل لتضع مواصفات، وخصائص تكون محل إجماع المعنيين وضالتهم التي يبحثون عنها. هذا حين تكون القيادة اختيارا بحثت عنه المراصد، وتحرت عنه غرف صناعة القرار، وليس استحقاقا تلقائيا بفعل ترتيب الحروف الأبجدية.
القارة التي تطحنها الأزمات، وتكاد تعصف بكياناتها (على مستوى الدول وعلى مستوى التكتلات) رياح التغييرات المتنوعة، بحاجة إلى نوع من القادة تفتح في وجهه كل أبوابها، ويكون صاحب كلمة مسموعة لدى شركائها المختلفين، والمتناقضين في نظرتهم إلى ما يريدون من قارة يعود التنافس عليها جذعا بين قوى دولية طامعة في ثرواتها، ومتخوفة من إفرازات ظروفها، طامحة إلى الاستفادة من مواردها، وراغبة في اتقاء مخاطرها.
تحتاج إفريقيا ٢٠٢٤ قيادة لا تشغلها الأزمات الداخلية عن الجهد الدبلوماسي الذي تحتاجه المنظمة، وإلى دولة وسيطة ليست ذات قضية خاصة، ضاغطة وشاغلة. وإلى شخصية لديها رؤية جامعة؛ يمكن أن تعجن خميرة يمتزج فيها الاقتصادي والاجتماعي، بالسياسي، بالأمني، بمنطق الشراكة، والندية.
كان البلد موريتانيا، وكان الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، فاختارنا الأفارقة لتصريف سفينة القارة في بحر الأزمات العاصف.
من الطرف إلى المركز
نظر إلى موريتانيا في العقود الأخيرة على أنها بلد طرفي؛ فهي في طرف البلدان الإفريقية جنوب الصحراء، وفي طرف العالم العربي، وقريبة من طرف العالم الإسلامي، والطرف هو التعبير اللطيف عن الهامش.
قراءة هذا الموقع من زاوية أخرى تعطي تفسيرا آخر، هو حاجة هذه العوالم مجتمعة إلى موريتانيا للاتصال فيما بينها، وهذا هو الذي سماه الرئيس الراحل المختار ولد داداه “صلة الوصل”، وصلة الوصل غير همزة الوصل.
وهذا هو بالضبط ما تجسد أخيرا في مشاريع عملية تحول بها البلد إلى مركز يلتقي فيه جيرانه من الجنوب والشمال والشرق. لكن تجسيده الأكبر كان في سلسلة المواقف التي صاغت النهج المتزن؛ في إدارة علاقات موريتانيا بمحيطها الجغرافي، وعمقها الاستراتيجي.
ربما تكون المرة الأولى في التاريخ التي ينحصر فيها التنافس على بلادنا على الأبعاد الإيجابية؛ من قبيل ضخ الاستثمارات، والاستفادة من العلاقات في تليين المواقف المختلفة للفرقاء، دون محاولة استغلال موريتانيا، موقعا، وموقفا ضد أي طرف.
وهي المرة الأولى التي تكون بلادنا قادرة على مخاطبة جميع الأطراف، وفي كل النزاعات، وهي من المرات القلائل التي يكون الرأي الموريتاني مرجحا في معادلات دولية وإقليمية، تعني منطقة الساحل وإفريقيا عموما.
في غضون الاثني عشر شهرا الماضية كانت موريتانيا محطا لرحال الدبلوماسية الإفريقية والعربية والعالمية؛ جاءها الماليون بحثا عن منفذ من الحصار الذي ضربه الأشقاء الأفارقة، وحل بها مبعوث المنظمة الاقتصادية لغرب إفريقيا بحثا عن منفذ في جدار الأزمة المالية الخانقة.
وافتها وفود المغرب والجزائر باحثة عن مواطئ أقدام، وربما نقاط التقاء في ملفات المنطقة، وإن بشكل غير مباشر.
وحطت بها رحال الدبلوماسية الأمريكية، والأوروبية، والروسية، استكشافا لآفاق التعاون، وترسيخا لأواصر الحوار، والعمل المشترك.
غادر كل ببغيته، وقد وجدها في موقف موريتاني متوازن قائم على حقائق الجغرافيا السياسية، متفاعل مع مستجدات الأحداث في العالم، واع بأسس التحالفات، متمسك بخصوصية التجربة، والظرف والسياق.
وكانت ضيفا مسموع الكلمة في كل القمم المعنية بشؤون القارة، وتلك المعنية بمستقبل الطاقة، والمناخ، والأمن العالمي.
أسلوب قيادة جاذب
قلت مرة إن القوى الغربية المهتمة بالمنطقة كانت تسمع من قيادة البلد الحالية حين كانت معنية بملفات الأمن حصرا، ولكنها تعالجها بمنطق القيادة الوطنية، وحين انتقلت تلك القيادة إلى مركز القرار السياسي، نقلت معها اهتمام الشركاء الدوليين الذين وجدوا محاورا بمنطق المصالح الاستراتيجية، قادرا على استيعاب مخاوفهم، وإعطائهم رؤى تجنبهم مزالق الانخراط في ملفات شائكة، أو الاصطدام بصخور بحر الظلمات الإفريقي المتلاطم.