العمارة الولاتية : دار المرواني ولد سيد محمد نموذجا / عال بن المرواني

بولاتة، الإحسانُ  كلَّ  أوان  :: متنافَس فيه بغير توانى
الشيخ يقري الضيف فيها والفتى ::  ويُجلُّه العلوي والمرواني
المقامة الولاتية-  للمؤرخ الكبير المختار ولد حامدن

لعل من أهم مميزات مدينة ولاته، معمارها الخاص وزخارفها الفريدة، التي تشكل رافدا أساسيا من روافدها الثقافية العتيقة والتي لا تزال تصارع من أجل البقاء حتى اليوم. ولعل التميز المعماري فى المدينة يعود تاريخيا إلى تزاوج العديد من المؤثرات الحضارية العربية والسودانية التى تلاقت وتلاقحت في المدينة منذ مئات السنين. حيث توافد عليها مهاجرون من مشارب مختلفة، منهم علماء وحرفيون وعاملون بسطاء.
ويتجلى ذلك الثراء الثقافي أيضا فى عادات المدينة البالغة التحضر، وسط محيط صحراوي بدوي، بما فى ذلك التنوع في الظواهر الثقافية من حرف تعتمد على المواد المحلية، وعادات غذائية تشمل وجبات نادرة لا تكاد تكون متداولة فى غيرها من مناطق البلاد.
وفي هذا المقال، نركز على العمارة التقليدية الولاتية وسوف نأخذ دار والدنا (المرواني ولد سيدي محمد -رحمه الله رحمة واسعة) كأنموذج للمسكن الولاتي التقليدي، سواء من حيث أسماء المواضع والغرف التي تتكون منها الدار والزخرفة الفنية التي تزين ملامحها، أو من حيث الدور الثقافي الذي ظلت تجسده هذه الدار كأخواتها من دور العلماء الولاتيين، إلى عهد قريب، كمحظرة حضرية تستقبل الطلاب الوافدين إلى محاظر المدينة من مختلف أنحاء موريتانيا لدراسة العلوم الإسلامية.
وكتعريف سريع بصاحب الدار فهو الفقيه المحدّث الورع، المرواني ولد سيدي محمد بن محمد المختار بن محمد يحيى الولاتى رحمهم الله، مدرس العلوم الشرعية في ولاتة، وواحد من أواخر علمائها الذين تشبثوا بإرثها المحظري، وبدأبهم في الدعوة إلى الخير، وبنشر معارفها…فكان له الفضل على سبيل المثال في تعليم السنة النبوية بوصفه مُجازا في الحديث بسنده إلى الإمام البخاري. وقد أعطى بدوره الإجازة للعديد من العلماء المعروفين في الحوض وفى انواكشوط.
أما ربة البيت فهي الشريفة السخية التقية، لاله اقيق رحمها الله، (وهي حفيدة رئيس المدينة التاريخي، اقيق بن عال بن ملوك رحم الله الجميع). وكان لها الدور البارز في صيانة معمار الدار والشغف بترقيته، والكفاح الدؤوب لصيانتها من عاديات الزمن وتهيئتها لراحة العيال والضيوف، فى إشراف مستمر على إصلاحها وتحسيناتها.
تتكون الدار في الواقع من دارين (الدار الرئيسية ودار بشيرى) تم دمجهما لتشكل منزلا واحدا واسع المساحة. ولكل منهما نفس المكونات من “حوش” و”درب” وغرف ومخزن، وتوابع.

ومما يظهر جليا للزائر، ما يتميز به السكن الولاتي من استخدام للمواد المحلیة من طین وحجارة عالیة الجودة، تضمن قوة البناء وانسجامه مع المشهد البیئي العام. فالمدينة التى تبدو كـ”قلعة تحرس هدوء الصحراء” بفضل موقعها فوق مرتفعات الحوض، تمتلك العديد من المقالع القريبة التي تُستخرج منها أشكال من المواد الطبيعية وأنواع من الطين بمختلف الألوان، والتراب الأبيض الناصع.

الطريق إلى المنزل :
ما إن تطأ قدماك مدخل حي (الزّوْقَه) حتى تواجهك تلك الفسيفساء الزاهية الألوان التي تزين المدخل الشمالي للدار. وتسمى هذه الزخرفة الخارجية “طرحة لِمْشِيمْعَاتْ”،
وتعتبر هذه “الطرحة” من أشهر وأجمل اللوحات الفنية التي ترسمها الولاتيات وكانت كل أسرة تسعى إلى وضعها على منزلها في حرص على فنهم التراثي الفرید. ويتم صنع هذه الطرحة على شكل دائرتين كبيرتين ترسم على جانبي الباب الخارجي للمنزل في حمرة على بياض، وبداخلها مربعات صغيرة أغلبها ثلاثة، ثم تأتي أقواس محيطة بها…وهي عملية فنية معقدة تتناغم فيها الألوان الطبيعية، كما توضع على الواجهة زخارف أخرى مختلفة بأشكال جميلة وبديعة.

(كت فم الدار) : مدخل المنزل
حين تخطو خطوات قلائل نحو المدخل الرئيسي للدار يعترضك باب المدخل ، وهو باب مصنوع من خشب (آمور) یتكون من ثمانیة قطع خشبية مستطیلة مزینة من الخارج ببعض المرصعات النحاسیة الصغیرة على شكل دائري، بباطن الباب  من الداخل قطعة من الخشب تستخدم لغلق الباب وفتحه، وفي وسطه  جرس یسمونه (السرسارة) ، بترقيق الراء ، یدقها الزائر لیعَلَم أهل المنزل أن بالباب طارقا يستأذن للدخول.

بعد الدخول من (باب الدار) يجد الزائر نفسه في رواق يسمونه (كُتُّ فم الدار) أشبه ما يكون، بـ “قاعة انتظار”،  ينتظر فيها الزائر الإذن له بالدخول ويحتمي فيها من حرارة الشمس أو برودة الطقس في الشتاء حسب فصول السنة.
عند الولاتيين، ترمز فكرة الرواق (كتُّ فم الدار) إلى الستر والنقاء والحفاظ على خصوصية أهل البيت والإستئناس والإستئذان قبل الدخول، تطبيقا لما ورد في بعض نصوص القرآن الكريم مثل الآية الكريمة في سورة النور (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذّكَّرون)،
وغالبا ما تكون جدران المدخل (كُتُّ فم الدار) مطلیة بطلاء أبیض من طين ناصع يشرح صدر الزائر، وعادة ما تكون به مصطبتان للجلوس عليهما ، وأحيانا تُصمم  تحته ساقیة ، أيْ قناة تصریف لمیاه الأمطار إلى خارج الدار.
الحوش : صحن الدار
بعد أن يلج الزائر (كتُّ فم الدار)، يدخل في ما يسمونه (الحوش) ، أي الفِناء الداخلي. وهو عبارة عن مساحة مستطیلة مكشوفة ، یتم الدخول إلیه عن طریق الباب الرئيسي للدار.
یمثل (الحوش) عنصراً رئیساً في العمارة السكنیة لمدینة وَلاَتَه، وهو أحد الأركان المهمة في المنزل فمن حوله تتوزع باقي الوحدات المكَونة للدار من المرافق والحجرات، ویقضى فیه سكان أهل البیت معظم الوقت لقضاء حوائجهم المنزلیة، فهو يعدّ بمثابة متنزه خاص للأسرة الوَلاَتیة تجتمع فیه وقت الفراغ لتناول أطراف الحدیث وشرب الشاي خاصة في فترة المساء، وفیه یلعب الأطفال، كما تقوم بعض النساء فیه ببعض الأعمال الیدویة من خیاطة وحیاكة وصناعة للأواني الفخارية.
أما بالنسبة للأثاث التقليدي ، ففي وسط الحوش ، ما إن تخف برودة الشتاء، تُنشر بعض الحصائر والأسِرّة ليجلس عليها أهل البيت : عندك (الخبطة) وهي بمثابة السرير المتحرك، إذ يمكن نقله من مكان لآخر في الحوش حسب رغبة أهل المنزل، و عندك (القَرْقَه) وهي سرير ثابت يعتمد على أربع دعامات من الخشب يعلوها أعمدة مثبتة وفوقها حصير محلي وفراش من سجاد أو زرابى… وهناك أيضا معالق على الحيطان لتعليق الأشياء، أو وضع “التاديت” وغيرها من الاوانى. وثمت أيضا الفتحات المجوفة في الحائط …
وعلى أرضية الحوش كساء أبيض من تراب أبيض ناصع يُنثر في عرصات الحوش، خاصة في مواسم الأعياد أو المناسبات العائلية. وهي تربة محلية يؤتى بها من مقلع خاص جنوب المدينة، و تسمى “تراب مامه”. ويضفي هذا التراب الأبيض المتناثر كاللؤلؤ على جنبات الحوش، نوعا من النور والقداسة على المكان في مخيلة الزائر، وخاصة من يرى المنظر لأول مرة.

الحوش كفضاء تعليمي تحتضنه الدار الولاتية
يجسد فضاء (الحوش) منصة علمية بكافة أبعادها، ففي الزاوية الشرقية منه يجلس الشيخ المرواني بعيد شروق الشمس إلى ما بعد وقت الضحى، ليستقبل القادمين من طلاب العلم لتفسير درسهم اليومي في العقيدة أو في الفقه، أو في الحديث الشريف أو في علوم اللغة العربية وآدابها. فيجلس الوالد على حصير مستندا الجدار ويجلس إليه الطلبة وقد اتجهوا نحوه في اتجاه القبلة، مولين ظهورهم لبقية “الحوش” في أدب ووقار… وتستمر الدروس المحظرية من بعد العصر إلى ما قبل الغروب.
وفي وصف هذا الحوش وما يثيره في النفوس من هيبة وجلال وجمال معماري،  يقول أحد شعرائهم  :
(حوشٌ) يزيِّنه ترابٌ ناصعٌ   *** متناثرٌ كاللؤلؤ المنثور
وتَحُفّه من جانبيه مجالسٌ   ***     لدراسة المسطور والمأثورِ
هذا يردّدُ نصَّ عقد الأشعرِي ***   نظما، وذا يصغي إلى التفسيرِ

وعلى جدران الحوش تشد انتباه الزائر زخرفة تنبض بالحياة وتثير كوامن النفوس. وفي الصورة أدناه أمثلة عن زخرفة الجدران والحوش في دار المرواني.
هذه الزخارف يسمونها (اطْرَحْ)، وهي رسومات  يدوية موشَّحة تصممها نساء ولاتيات مختصات في هذا الفن،  وعن شأن هذه الزخرفة يقول شاعرهم :
لِمَنِ الدار.. زخرفتها الأيادي  **      أقْوتِ اليوم من حبيب الفؤادِ
ليت شعري أقُــطَّـنٌ أهــلها أمْ   **   مـزّقـتهـم يـد الـنـوى في الـبـلادِ
كم هصرنا من الوصال فنونا  ***    عند (لَـمْطيلعٍ) فَحـقـف (الرُّقاد)
إلى أن يقول:
وإلى (الزوْقَه) بلِّغـنَّ سلامي *** فهْي مهد الصبا ودار المَعادِ

نموذج آخر من الحوش وزخرفته في دار أحد الأعيان

هذا، و يتمَیز الحوش الولاتي بجدرانه العالیة وبإحاطته بالحجرات إذ يجسد حصانة للمنزل وساحة مفضلة للعب الصغار.
وفى الجانب الشرقي من الحوش، توجد  السلالم المؤدیة للطابق العلوي من الدار  ويسمونه (القُرْبْ) وهو الذي یستخدم للإستراحة صیفًا بحكم ارتفاعه وتعرضه للهواء الطلق عند اشتداد الحرارة.

(القُرْبْ) : الدرب العلوي
حجرة تشبه الصالون توجد في الطابق العلوي، یتم الصعود إلیها كما قلنا، انطلاقا من (الحوش) عبر سلالم مبنیة بالحجارة والطین … والدرب العلوي عبارة عن بیت صیفي هو الآخر، یستخدم للمبیت فیه أوان فصل الصيف أو للإستراحة بفضل تعرضه للتيار الهوائي … كما يُستخدم كغرفة ضيافة، إذا أقام عندهم ضيف أو أحد الأقرباء من الرجال ليتمتع بقدر من الخصوصية طيلة مقامه .
وفى ذلك يقول شاعرهم (بالحسانية)
سُكناهم في الصيف أفلـدراب         من تحت ومن فوق أفلقـــــــــــــــــراب
يمتسحُ يحشوهم باتـــــــــراب         منكوته من شرق أفحفـــــــــــــــــــــــره

(كُتُّ) :
هو لفظة تستخدم كثیراً في عمارة البیت الوَلاَتي للدلالة على الحجرة التي تستخدم للنوم.
ويمثل (كتُّ) البیت الأمامي من سلسلة متتالیة من ثلاثة بیوت.  ویستخدم للسكن في بدایة الشتاء ونهایته ویحتوي على مصطبة أو اثنتین في أطرافه حسب اتساعه. يتكون سقف (كتُّ) من خشب من جذوع أشجار (اتورجه) ، أَما أرضیته فتكون مبلطة ببلاط أدق وأملس من بلاط الصحن و یفرش في فصل الشتاء بتراب أبیض ناصع، يستجلب من كثبان بيضاء خارج المدينة  يسمونها (اتراب مامَ)، تعطي هذه التربة منظرا مبهجا ورونقا زاهيا لـفضاء (كتّ) ,
من الناحیة المعماریة، يشكل (كتُّ) حجرة مستطیلة تقع على شمال المدخل و تطل على الصحن عبر باب كبير.
يُعدُّ (كتُّ) مكاناً لإقامة أهل الدار في فترة البرد، وحجرة لاستقبال الزوار من الأقرباء خاصة.
على جدرانه يلحظ الزائر فتحات مربعة بسیطة تستعمل لوضع الكتب  و المتعلقات المنزلية ، و أحيانا یثَبت في الجدار قطع من الخشب عبارة عن قضیب خشبي یستخدم كَشَمَاعة تعلق علیها بعض الأغراض من الملابس والثیاب من خلال قطعتین متجاورتین مع بعضهما البعض يسمونهما (لمْطارِيح(،
السَكفَة :
وهي تصحيف (للسقيفة). تقع  (السكفه) بعد (كتّ) وتعدّ غرفة رئیسیة أخرى للدار، وتستخدم للسكن شتاءً أيضا بحكم أنها من أكبرحجرات البیت وأكثرها دفئًا.
و(السَكَفة) نوعان : إحداهما لها ركائز أو دعامات والأخرى خالیة منها، ولهما نفس الدور، وتحتوي على مصطبة في طرفي الحجرة لنصب الفراش والجلوس علیها، وفى بعض الأحیان تحتوى على مصطبتین، وفتحات في الجدران أیضًا،
وتتعدد وظائف (السكفة) فهى مكان لاجتماع العائلة وحجرة نوم للصبيان.
ومن خصائص (سكفة دار المرواني) تاريخيا، أنها كانت في القديم مقر إقامة أحد كبار علماء المحاجبيب حيث كانت ملكية هذا الجزء من الدار له في ذلك الزمن، ويقال إنه كان يتردد عليه الشيخ سيد المختار الكنتي رحمه الله، للدراسة فيها أيام إقامته في ولاته.
وفي حقبة لاحقة، تحولت ملكية الدار إلى أحد أعمام العلامة محمد يحيى الولاتى رحمه الله ، وقد تردد الأخير على هذه الدار في صباه وشبابه وتلقى في (السكفة) المذكورة بعضا من دراسته…
المخزن
هو آخر البیوت المتسلسلة تباعًا ویستخدم لتخزين أدوات المنزل في الأحوال العادیة، أما في الحالات الخاصة فیستخدم كمخزن سري، وفي بعض الأحيان يبنون تحته مخزنا آخر أصغر حجما (قبو) يرتبط بالمخزن الرئيسي بسلالم … وتستعمل مثل هذه المخازن في أوقات السيبة وإغارة اللصوص التي كان السكان يتعرضون لها من وقت لآخر، وبالتالي كان لها دور هام في إخفاء الممتلكات من خطر النهب,
وفي بعض المنازل، يتبَع للمخزن أسطوانة أخرى،  يسمونها (المتمورة) ، ولعل أصلها يرجع إلى الفصحى (المطمورة) بمعنى أنها مخفية عن الناظرين ، ويخزنون فيها الحبوب والمواد الجافة لتحصينها أيضا من هجوم اللصوص وقطاع الطرق.
وقد كان الميسورون من أهل المدينة يخرجون للتجارة إلى أماكن نائية مثل تمبكتو وغيرها ويستقدمون حاجيات المدينة من طعام وأقمشة وتوابل وما سوى ذلك من حاجيات. وكان تعريف الميسور عندهم من يحتفظ في مخزنه ب”نفقة سنة” من حبوب وماشية أليفة وغيرها، وما دون ذلك فهو حد “المسكين”

(لَقْبُنِّيَّ) : المخزن الجانبي
وهي  غرفة صغیرة  توجد في الحوش أو أحيانا وراء “كتّ” تستخدم لتخزین المؤن وبعض الأدوات
الخاصة بالدار. ويكافئها اليوم ما يمكن أن نسميه بالدولاب  أو Placard

(الدَّرْب)
يكافئه اليوم قاعة الاستقبال “الصالون”، أو الجلسة.
يقع (الدرب) على مستوى (الحوش)، ويمثل بیت السكن الصیفي و یتمیز بالتهویة الشدیدة، أوما يسمى علميا ب”التكييف الطبيعي”، إذ أن له بابان : أحدهما شمالي يطل على الحوش (فناء الدار) والباب الآخر جنوبي يفتح على  مصطبة كبيرة  خارجية (إبَنْبِ ) مطلة على (حوش البقر) أسفل منها. هذا بالإضافة للنوافذ في الأطراف، وفتحات في الجدران، إضافة إلى فتحات في أواسط الجدران  لوضع الكتب وبعض المستلزمات الخاصة بأهل الدار. (الصورة أدناه هي صورة من واجهة الدرب)
وعلى العموم، فقد صُمّمت المنازل الوَلاَتیة بطریقة تتكیّف مع درجات الحرارة المرتفعة باعتبار الظروف المناخیة السائدة في المنطقة.
في الجزء الثانى من هذا المقال، سنتناول إن شاء الله توابع الدار ومرافقها، ثم نصعد فوق سطح المنزل لإلقاء جولة بصرية على الجوار ومن ثم نأخذ “بانوراما” للمدينة وإطارها المعماري الأوسع …

 

زر الذهاب إلى الأعلى