ملف العشرية … ومحنة ابن زيدون / د. عبدالرحمن بون

ذات عشية من عشيات المطالعة، كان الكتاب يعنى بالأدب الأندلسي، وشعر أبي الوليد ابن زيدون.

جالت بي الخواطر في ذلك الزمن الغابر، ومحنة الشاعر القرشي المخزومي، الذي وجد نفسه بين جدران السجون بعد أن كان صاحب الوزارتين، وإذا به ينشد :

ما عَلى ظَنِّيَ باسُ ** يجرَحُ الدَهرُ وَياسو
رُبَّما أَشرَفَ بِالمَر . ءِ عَلى الآمالِ ياسُ
وَلَقَد يُنجيكَ إِغفا … لٌ وَيُرديكَ احتِراسُ
إِن قَسا الدَهرُ فَلِلما .. ءِ مِنَ الصَخرِ انبِجاسُ

ليبين ابن زيدون ــ بهذه الأبيات ــ عن معدن الكريم حين يصقل، وذي المجد الأصيل الذي تحاك حوله المكائد، وتتربص به الدوائر، فلا تزيده نكبات الدهر إلا شموخا وتشبثا بكرامته.

وإذا كان السجن نكبة، فإن العظماء هم الذين ينكبون دون غيرهم ــ كما كان يقول ـ:

هل الرياح بنجم الأرض عاصفة ** أم الكسوف لغير الشمس والقمر

فهو كالسيف الذي أودع غمده، إسوته في ذلك علي ابن الجهم :

قالوا حُبِسْتَ فقلت ليس بضائري ** حبسي وأي مهند لا يغمد.

ومهما تكن التهم التي “لفقت” من أجل سجن ابن زيدون ــ والتي تضاربت بشأنها الروايات  ، كان أبرزها الاستيلاء على عقارات مواليه بعد وفاتهم ــ فقد كان للوشاة والحساد دور كبير في إيغار صدر أبي الحزم عليه بعد أن قلده الوزارة ومنحه ” لقب ذي الوزارتين ” ، فكالوا له ما استطاعوا من تهم ، حتى وإن كانت لا يستوعبها عقل، ” نميمة أهداها كاشح ، ونبأ جاء به فاسق. ”

وَقَد تُسمِعُ اللَيثَ الجِحاشُ نَهيقَها **  وَتُعلي إِلى البَدرِ النِباحَ كِلابُ
إِذا راقَ حُسنُ الرَوضِ أَو فاحَ طيبُهُ ** فَما ضَرُّهُ أَن طَنَّ فيهِ ذُبابُ

أدرك ابن زيدون عمق الشرخ الذي تسببت به الوشايات، ونيران الحقد التي أضرمها الحساد، فلم يجد بدا من الفرار إلى من عرف قدره، وأنزله منزلته، ملك “إشبيلية” المعتضد بن عباد.

وتشاء الأقدار أن يغلب صاحبه الأخير على ملك صاحبه القديم، ليكشف لنا عن جانب آخر من شخصيته، الذي تمثل في حفظ الود ، والوفاء بالعهد.

لم يظهر صاحبنا نشوة بالنصر على ما سجنوه ، بل سعى جاهدا لفك أسر أسيرهم، وإغاثة ملهوفهم.

” وإذا كان تاريخ ملوك الطوائف في الأندلس حالة كاشفة لخطورة اعتماد الحكام على المنافقين والوشاة، وإبعادهم ذوي الكفاءات والقادة، حتى ينهار الملك فلا ينفعهم البكاء عليه، فإن في نبأهم عبرة، وتجاربهم ذكرى لمكن كان له لب . ”

إن خطأ تغييب شخصية اجتماعية وازنة ، وكفاءة وطنية بارزة ، كالوزير، المهندس محمد عبدالله ولد أوداع، لجدير بالتدارك، وحقيق بأن يعدل عنه.

وذو اللب والتقوى حقيق، إذا رأى ** ذوي طبع الأخلاق، أن يتكرَّما
فجاورْ كريماً، واقتدح من زنادهِ ** وأسْنِدْ إليهِ، إنْ تَطاوَلَ، سُلّمَا

إن غياب  الوزير عن الساحة الوطنية، لا يضيره أكثر مما يضر بمصالح الدولة ، وهي في حاجة ماسة لتكاتف الجهود ، ورص الصفوف ، لوضع لبنات في صرح النهضة الاقتصادية والاجتماعية.

لقد ظل الوزير وفيا لوطنه ، بشعبه وحكومته، رافضا مغادرة البلاد إلى أخرى ترى فيه نهضتها وازدهارها.
كما رفض في الوقت ذاته الانجرار خلف مساع الوشاة للوقيعة بينه وبين رئيس الجمهورية ، فكان أول الداعمين لبرنامج الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، حيث انخرط في العمل السياسي بصمت لإنجاح مرشح الأغلبية الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني لتحتل مقاطعة الاك الرتبة الأولى وطنيا من ناحية الأصوات التي حصل عليها الرئيس غزواني (20143) و حققت بلدية أغشوركيت أعلى نسبة حصل عليها على مستوى بلديات لبراكنة (81%).

كما ظل الوزير صابرا ، رابط الجأش ، واثق الخطوة، لا يضاهي صبره على الغبن إلا صبره على المحن.
لا أزال أتذكر الأيام الأول من بدء مسار “ملف العشرية” ، والقلق الشديد الذي انتابني عليه، وكيف كنت أسائل عنه كل زائر، حتى تمكنت من استصدار “إذن زيارة”.

كنت أدرك جيدا مدى صبر الرجل وجلادته ، إلا أن عامل ” الصدمة الأولى “، وتسارع الأحداث بوتيرة رهيبة، ظننتهما يشكلان له مصدر قلق ، إضافة لتسخير الماكينة الإعلامية ، للنيل من عدة أشخاص كان هو من ضمنهم.

وأنا في طريقي لزيارته كنت أردد أبياتا لابن وهب ، ظننتني أصبره بها ، وأطمئنه بانفراج المحنة :

محنٌ أبا ايّوب أنت محلّها ** فإذا جزعت من الخطوب فمن لها
إنّ الّذي عقد الّذي انعقدت به ** عقد المكاره فيك يحسن حلّها
فاصبر فإنّ اللّه يعقب فرجة ** ولعلّها أن تنجلي ولعلّها
وعسى تكون قريبة من حيث لا ** ترجو وتمحو عن جديدك ذلّها

وإذا بي أتفاجأ مما لقيته ، فهو الذي يصبرني ويطمئنني ، بل ويسأل عن أحوال الناس ، وما يصلح شؤونهم، ومد يد العون لمن يحتاجه، حتى وهو في ذلك الظرف الحرج ، فقلت في نفسي صدق المتنبي  حين قال < لكل امرئ من دهره ما تعودا > .

لم تغير تلك المحنة من المعدن الأصيل، بل ظل  محتفظا بنقائه، لا تقدر على تغييره عوامل الزمن أو تبدل صفاته، فخرجت من عنده ولسان حالي :
تمر بك الأبطال كلمى هزيمةً ** ووجهك وضاح وثغرك باسمُ

وحتى لا أطيل على القارئ ، فإنني أكتفي بهذين المثالين ، وهي محاولة “مقتضبة” لربط الماضي بالحاضر، واستخلاص العبر من التاريخ، والدهر لا يبقى على حال له شأن :

إن للدهر ان تأملت صرفا ** يكسب المرء حكمةً واعتبارا.

زر الذهاب إلى الأعلى